22 رجب 1446 هـ   22 كانون الثاني 2025 مـ 8:05 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-11   194

الأخلاق والسياسة في الإسلام: تحديات ومفاهيم في عالم معاصر


معتصم السيد احمد
السياسة في الإسلام تمثل حركة أخلاقية تهدف إلى بناء مجتمع تستند روابطه إلى قيم الحق والفضيلة، وتسعى لرفض جميع أشكال الظلم، بما في ذلك الاضطهاد السياسي والاستئثار بالسلطة. كما تسعى لتحقيق العدل والمساواة، وإرساء الحقوق، وتحقيق الرفاه والتنمية، ودفع الأمم والمجتمعات نحو التقدم لتحقيق تكامل الإنسان وبناء حضارة قائمة على مبادئ الإسلام. ولتحقيق هذه الأهداف، تعتمد السياسة الإسلامية على قيم الصدق والإخلاص وكل فضائل الأخلاق.

هذا التصور الطموح ينسجم مع الفهم الإسلامي العميق الذي ينظر إلى الدين بوصفه رسالة شاملة للحياة، لا تقتصر على تنظيم شؤون الآخرة، بل تشمل تدبير حياة الإنسان في كل أبعادها الروحية والمادية.

على النقيض من هذا الطموح، يعكس الواقع السياسي العام توجهاً مختلفاً تماماً. فقد ركزت التصورات السياسية الحديثة على تكريس المصالح الآنية والدنيوية، متجاهلة الأبعاد المعنوية والروحية للإنسان. وأصبح الأفق الذي يتحرك فيه الفكر السياسي مقيداً بحدود المادة، مما أدى إلى إهمال القيم الأخلاقية والروحية التي تمثل جوهر رسالة الإسلام.

هذا الإهمال لم يقتصر على الفلسفة السياسية، بل امتد ليشمل الإنسان نفسه، الذي يُنظر إليه ككائن مادي فقط، متجاهلين إمكانياته في السمو والتكامل الذاتي.

في ظل هذا الجو المشبع بالمادية، لم تسلم الحركات الإسلامية التي انخرطت في العمل السياسي من التلوث الأخلاقي السائد. فقد أصبحت جزءاً من الأزمة الأخلاقية الكبرى التي تطغى على عالم اليوم. وإذا أردنا أن نكون منصفين، فإن الإشكالية الكبرى التي تواجه الإنسانية اليوم ليست فقط في انخراط هذه الحركات، بل أيضاً في تداعياته. فقد ساهم هذا الانخراط، في كثير من الأحيان، في تأجيج أزمات الأمن الدولي.

من الخطأ اختزال أسباب التطرف الإسلامي في مسؤولية هذه الجماعات فقط، كما يفعل كثير من المحللين. فالمناخ السياسي العالمي نفسه هو الذي أوجد البيئة الملائمة لنمو هذه الظواهر. إذ لا يمكن فهم أي ظاهرة سياسية أو اجتماعية بمعزل عن السياق الذي نشأت فيه.

الإرهاب، كظاهرة، هو نتيجة مشوهة وغير شرعية لصراعات حضارية عميقة. إن سياسة الهيمنة، واحتكار القوة من قِبَل دول بعينها، ومصادرة حقوق الشعوب الضعيفة، لا تخلق سوى وحوش جريحة يصعب ضبط تصرفاتها. هذه الهيمنة العالمية، إلى جانب تهميش البعد الأخلاقي، أفضت إلى صناعة مناخ سياسي مضطرب، يعاني من أزمة قيم تتطلب معالجة شاملة تتجاوز الحلول السطحية.

ما يفتقر إليه عالم اليوم بشكل جلي هو وجود الأخلاق في ميدان السياسة، إذ إنّ الحركات الإسلامية، إن كانت جادة حقاً، يجب أن تركز على تطبيق سياسة مستندة إلى الأخلاق، بدلاً من تبني ما يمكن تسميته بـ"أخلاق السياسة" التي تخدم المصالح المؤقتة دون التزام بقيم ثابتة. هذا ما لم تنجح فيه حتى الحركات الإسلامية المعتدلة، حيث لجأت عند سعيها للسلطة إلى استخدام الأساليب البراغماتية المرتبطة بالسياسة التقليدية، مما أدى إلى تفاقم الأزمات وتشويه صورة الإسلام في عيون الناس.

عندما تكون هذه الحركات في المعارضة، نجدها ترفع شعارات الحرية والتعددية، وتطالب بالاستقلال عن القوى الدولية، كما تدّعي الدفاع عن حقوق المحرومين والفقراء. لكن بمجرد أن تصل إلى السلطة، تسلك في الغالب مساراً يناقض تماماً ما كانت تدعو إليه، إذ تُظهر سلوكيات استبدادية وتدفع بالمجتمعات إلى المزيد من الانقسام والصراعات.

لا يحتاج الأمر إلى عناء البحث عن أمثلة معاصرة؛ التجارب التي شهدناها على أرض الواقع تقدم شواهد واضحة. فمثلاً، في السودان، كان النظام السياسي يتطور بشكل تدريجي نحو الديمقراطية، حيث كانت الأحزاب السياسية تتنافس بحرية ضمن أجواء تنبئ بنضج التجربة الديمقراطية. لكن مع استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة بانقلاب عسكري، تم القضاء على تلك التجربة الديمقراطية، واحتُكرت مقاليد السلطة، مما أدى إلى تدمير البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل حتى الثقافية والفكرية.

أما على الصعيد الدولي، فإن الصورة الأشد قتامة تتمثل فيما قامت به حركات مثل داعش من أعمال قتل وتفجير وغدر وخيانة، وهي ممارسات تُظهر بوضوح مدى انقلاب هذه الجماعات على قيم الإسلام الأصيلة، وتعاليمه السامية التي تدعو إلى الرحمة والتسامح.

كل ذلك يبرز مدى عمق الأزمة الأخلاقية التي تعيشها هذه الحركات، سواء على مستوى تنظيمها الحركي أو ممارساتها عند تولي السلطة.

إشكالية الرؤية السياسية الإسلامية في العصر الحديث تكمن في هيمنة نموذج الدولة الحديثة على التفكير السياسي المعاصر، مما يجعل الإنسان المسلم في مأزق حقيقي لا يجد مفراً منه. فعندما تسعى الحركات الإسلامية لمسايرة هذا النموذج، قد تضطر إلى التخلي عن النظام القيمي الذي يفرضه الانتماء للإسلام. فإقامة دولة إسلامية تحافظ على خصوصيتها القيمية في ظل عالم دولي يتجه نحو تكريس نموذج واحد يتعارض مع المبادئ الأخلاقية للإسلام، يجعل من الصعب إقامة نظام إسلامي يتماشى مع هذه الظروف.

إن الخطاب الإسلامي في العصر الراهن بالفعل يعاني من أزمة تتعلق بعقدة الحداثة. في هذا السياق، يقف الخطاب بين خيارين لا ثالث لهما: الأول هو الخيار البراغماتي الذي يبرر خياراته ويتماشى مع الواقع ليتماشى مع الاتجاه العام، والثاني هو الخيار الأصولي المتشدد الذي يرفض جميع منتجات الحداثة. لكن بين هذين الخيارين تضيع الفرص لإنتاج رؤية سياسية إسلامية أكثر واقعية، تكون قادرة على دمج أخلاقيات الإسلام مع الاستفادة من مكتسبات الحداثة. هذا الخيار يظل طموحاً بعيد المنال في ظل تعقيدات الواقع الراهن.

وفي أفضل الحالات، أصبح الإسلام في بعض الدول الإسلامية مصدراً لتشريعات الأحوال الشخصية فقط، حيث يُدرج في الدساتير المحلية على أنه أحد مصادر التشريع. لكن هذه العبارة غالباً ما تكون خادعة، إذ أنها تعمل على تقليص الإسلام إلى بعض القوانين المعزولة عن الواقع الاجتماعي والسياسي. هذه الاستراتيجية تمثل توظيف الإسلام لصالح المشاريع السياسية للدول التي تسعى من خلالها إلى تهدئة الشارع الإسلامي، بعد أن قامت بإعادة صياغة تلك التشريعات بما يتناسب مع سياستها الداخلية، الأمر الذي يؤدي إلى إفراغ الإسلام من جوهره الحقيقي وتفعيل تأثيره على التوجه السياسي العام.

الحركات الإسلامية التي واجهت الدول القائمة اليوم، رغم اعتراف هذه الدول بالإسلام كمصدر للتشريع، لم تقدم تصورات مقنعة للعمل السياسي الإسلامي خارج نطاق القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية. وعند وصول بعضها إلى السلطة، نجد أنها حولت مفهوم الدولة إلى مجرد تطبيق لحدود صارمة مثل القطع والجلد والرجم، مما يتناقض مع المبادئ الأساسية للدولة الحديثة. مثل تجربة طالبان، وشريعة جعفر نميري في السودان، وبعض المناطق التي خضعت لحكم التيارات الإسلامية في سوريا والعراق، تكشف عن التناقض الواضح بين محاولات إقامة دولة إسلامية وبين مفهوم الدولة الحديثة.

هذا التناقض بين الدولة الحديثة والدولة الإسلامية لم يقبله الكثيرون، حيث رفضت بعض القيادات الإسلامية هذا الصراع بين المشروعين، وسعت لتقديم تصور يحقق التوازن بينهما. هذا الخيار يبدو أكثر عقلانية وموضوعية، إلا أنه قد يؤدي في النهاية إلى التنازل عن المشروع السياسي الخاص بالإسلام لصالح مشروع الدولة الحديثة، مع بعض التعديلات التي تحاول إرضاء الطموحات الإسلامية. على سبيل المثال، كتب الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، القيادي الإخواني السابق والمرشح الرئاسي المستقل في مصر، مقالاً جاء فيه: «عند التأمل في النصوص الإسلامية نجد أنها لا تقدم شكلاً محدداً للدولة، بل تركز على القيم والمبادئ العليا التي يجب أن تقوم عليها الدولة، تاركة شكل الدولة وطريقة إدارتها للمتغيرات الزمانية والمكانية. فالدولة، باعتبارها ضرورة من ضرورات الاجتماع السياسي، يجب أن تُقام للحفاظ على النظام وتنظيم شؤون الناس، أما شكلها وطرق إدارتها فهي متروكة للناس لتطويرها وتغييرها بما يتناسب مع مصالحهم المتغيرة من حين لآخر».

وأضاف أبو الفتوح أن «الدولة المدنية كتعريف عصري للدولة الحديثة لا تتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن الإسلام يجب أن يكون المرجعية العليا للدول الإسلامية. إذا كانت الدولة الحديثة تتضمن آليات ونظم وقوانين وأجهزة لا تتناقض مع ثوابت الإسلام القطعية، فإنه لا يوجد مانع من تطويرها والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة، باعتبارها منتجاً إنسانياً عامّاً يجب الاستفادة منه لصالح تقدمنا وتطورنا.. وفي الجانب الآخر يجب أن نقر جميعاً بأن مفهوم "الدولة الدينية" كمصطلح لم يرد في الإسلام. فالإسلام لا يأسس لحكم "ثيوقراطي"، ولو كان يرى أن في ذلك مصلحة للناس لنصَّ على ذلك بشكل صريح، فالإسلام هو الدين الذي لم يترك صغيرة أو كبيرة في تنظيم شؤون الناس إلا وذكرها، من الزواج والطلاق إلى السلم والحرب. ما دعا إليه الإسلام في هذا الشأن هو التزام الدولة كمؤسسة تنظيمية بمرجعية الإسلام، ومنع سن أي قانون يتناقض مع ثوابته القطعية. ،www.ikhwanwiki.com،index.php?title ويكيبيديا الاخوان المسلمين.

على الرغم من أن هذا النص يحمل فكراً متقدماً قد يتجاوز الإشكال السابق، إلا أنه يُعد تنازلاً عن الشعار التقليدي لجماعة الإخوان المسلمين، كما يُعد كفراً في نظر الحركات الراديكالية التي ما زالت تسعى لإقامة "دولة إسلامية". فإذا كان من غير الممكن أن نجد مصطلح "الدولة الإسلامية" في القرآن، فلماذا يتم رفع هذا الشعار أساساً؟ وإذا كانت الدولة وجدت لتحقيق مصالح الناس، كيف نفهم وجود سياسة إسلامية معينة تهدف لتحقيق هذه المصالح في كل زمان؟ ما يجوز نسبته للإسلام هو ما نصَّ عليه الله ورسوله، وطالما لم يُصرحا بشكل محدد بنظام الدولة، فكيف يمكننا نسب اجتهادات الإسلاميين إلى الإسلام؟ في الحقيقة، لا يوجد فرق بين القول: "دولة إسلامية" أو "دولة الله" أو "دولة رسول الله". فإذا كان لا يوجد بيننا من يمكنه الحديث نيابة عن الله، فلا يوجد من يستطيع الحديث عن دولة إسلامية أيضاً.

وبالتالي، يجب أن نفهم العمل السياسي الإسلامي من خلال إطار العمل الجماهيري الحزبي، الذي يتنافس مع الأحزاب الأخرى بناءً على برامجه السياسية. كما أن بعض الأحزاب قد تتشكل من رؤية اشتراكية مثلاً، كذلك الحال مع الأحزاب الإسلامية التي توحدت في بعض الرؤى التي تمثل اجتهاداتهم في الإسلام. وهذا هو المجال الذي نحترم فيه هذا الخيار الجماعي، وليس لأنه يمثل الإسلام أو مراد الله. وكل ذلك من أجل الاحتراز من مصادرة حقوق الناس باسم الإسلام ونيابة عن الله.

بالمقدار الذي فشلت فيه الحركات الإسلامية سياسياً، فشلت أيضاً أخلاقياً. فلم تتمكن هذه الحركات من تقديم صورة أخلاقية ناصعة سواء في العمل الحركي أو في إدارة الدولة. على الرغم من أن حركة الإخوان المسلمين تحتفظ بأدبيات ضخمة في تربية الأفراد عبر التزكية والتعليم والترابط الأخوي، إلا أن آثار هذه الجهود لم تنعكس بشكل ملموس على مستوى الفعل الاجتماعي والسياسي. لم يظهر أفراد هذه الحركات بسلوك يميزهم كثيراً عن باقي المسلمين، فإخوان مصر، على سبيل المثال، لم يكونوا نماذج متميزة، ولا إخوان سوريا أو تونس أو السودان أو اليمن أو الأردن، وحتى شعوب هذه الدول تحتفظ بملفات ضخمة حول ممارسات غير أخلاقية ارتكبتها الحركات الإسلامية سواء في مرحلة المعارضة أو السلطة.

هذا الواقع يقودنا لفهم نفور الكثير من شعوب المنطقة من العمل السياسي الإسلامي. لكي تتمكن الحركات الإسلامية من استعادة ثقة الشارع الإسلامي، يجب عليها العمل على تأسيس سياسة مشبعة بأخلاق الإسلام وقيمه النبيلة. ونحن لا نقصد الأخلاق العامة التي يجب أن يتحلى بها كل مسلم، مثل الصدق والأمانة على المستوى الشخصي، بل نوجه الحديث إلى الأخلاق التي يحتاجها العمل الاجتماعي والسياسي، مثل العدالة، والإنصاف، والحرية، والمساواة، والدفاع عن سيادة الأمة وكرامتها، والتضحية من أجل مصالحها. وهذا ما لم تنجح فيه حتى الحركة الإسلامية الشيعية في العراق.


في الختام، يظل العمل السياسي الإسلامي اليوم في مفترق طرق، حيث تبرز التحديات الكبيرة التي تواجه الحركات الإسلامية في التوفيق بين مبادئ الإسلام وأخلاقياته وبين متطلبات الواقع السياسي المعاصر. ما لم تتمكن هذه الحركات من تجاوزه هو غياب الرؤية الشاملة التي تربط بين القيم الدينية والممارسات السياسية الحديثة بشكل حقيقي وفعّال. وبدلاً من أن تكون السياسة أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، أصبحت في كثير من الأحيان مصدراً للانقسام والصراعات الداخلية.

إذا أرادت الحركات الإسلامية أن تستعيد دورها في قيادة الأمة نحو التغيير والتحول، يجب عليها أن تعيد النظر في أسس عملها السياسي والأخلاقي، وأن تسعى لبناء نماذج سياسية تتسم بالمصداقية والتوازن بين القيم الإسلامية والمفاهيم الحديثة. وعليها أن تكون أكثر شفافية في التعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية، وأن تسعى لتحقيق أهدافها بعيداً عن المصالح الشخصية أو الحزبية الضيقة. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م