22 رجب 1446 هـ   22 كانون الثاني 2025 مـ 7:47 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-14   69

الإيمان والبيئة: تقاطع ضروري لتشكيل حياة متوازنة


معتصم السيد احمد

الإيمان والبيئة، على الرغم من اختلاف مجالاتهما، يتقاطعان في نقاط جوهرية تصوغ حياة الإنسان وتحدد علاقته بالعالم من حوله. فالإيمان ليس مجرد منظومة داخلية تحكم علاقة الإنسان بالخالق، بل هو منظومة شاملة تؤثر على كل ما يحيط به، بما في ذلك الطبيعة والكون بأسره. هذه العلاقة المتداخلة تتجلى في إدراك الإنسان لمكانته كجزء من شبكة الحياة التي تتسم بالتوازن والتكامل، حيث تعتمد كل عناصرها على بعضها البعض لضمان الاستمرارية والانسجام.

هذا التداخل بين الإيمان والبيئة لا يقتصر فقط على الجوانب الروحية أو الفلسفية التي تعزز من قيم السمو الأخلاقي والتأمل في عظمة الخلق، بل يمتد ليشمل المسؤوليات الأخلاقية والعملية تجاه الكون بأسره. فالإيمان الحقيقي يفرض على الإنسان أن يتحلى بالوعي العميق والحرص الدائم على رعاية البيئة، بوصفها أمانة ربانية ومسؤولية أخلاقية. إن هذه المسؤولية لا تُبنى فقط على القيم الدينية، بل تتقاطع مع المبادئ الإنسانية التي تدعو إلى حماية موارد الأرض وضمان استدامتها للأجيال القادمة.

فهم الأديان: من التجربة الذاتية إلى المنظور الكوني

لطالما صُوّرت الأديان، خاصة في بعض الرؤى التقليدية، كوسيلة تُحلق بالإنسان نحو السمو الروحي، مبتعدة به عن الأرض والطبيعة، مما أدى إلى نشوء فهم قاصر يحصر الدين في نطاق التجربة الذاتية والطقوس الفردية. هذا التصور جعل العلاقة بين الإنسان والبيئة علاقة ثانوية في سياق الممارسات الدينية، حيث تُركز بعض الأديان أو التفسيرات على الجانب الروحي وتُغفل دور الإنسان كجزء فاعل ومسؤول عن الأرض.

لكن الإسلام في جوهره، يُقدم تصوراً مختلفاً تماماً. فهو يدعو الإنسان إلى أن يكون جزءًا من منظومة كونية متكاملة، تُوازن بين متطلبات الروح واحتياجات الجسد، وبين حقوق الإنسان وحقوق الطبيعة. الإسلام يرى الكون كله كآية عظيمة تعبر عن قدرة الله وحكمته، ويدعو الإنسان إلى أن يتأمل في هذه الآيات ويستفيد منها دون أن يُخلّ بتوازنها أو يُفسدها.

هذا التصور يجعل الإنسان لا مجرد مستخدم للموارد الطبيعية، بل حارساً عليها. فهو مسؤول عن الحفاظ على هذا التوازن الدقيق الذي يحكم العلاقة بين عناصر الكون، بما في ذلك الطبيعة والبشر والكائنات الأخرى. في الإسلام، الإيمان ليس فقط اتصالاً بين الإنسان وربه، بل هو أيضاً التزام تجاه كل ما خلقه الله، بدءاً من حماية البيئة وصولاً إلى ضمان حقوق الآخرين في الموارد الطبيعية.

والإيمان بهذا المعنى يُعبر عن اعتراف شامل بحقيقة وجود الأشياء وحقوقها؛ إذ إن ثقة العقل بمعارفه تُفضي إلى التسليم بواقع الأشياء، مما يُنتج إيماناً بحقيقتها وحقوقها. فعندما ندرك حقيقة الشمس والأرض والحياة من حولنا، فإننا نبدأ في بناء علاقة قائمة على الاعتراف بالحقوق الموضوعية لهذه المخلوقات. هذا الاعتراف يُعتبر النواة الأساسية لفهم الحقوق في العلاقة مع الآخرين، سواء كانوا بشراً أو عناصر الطبيعة. فبدون الإيمان بحقيقة الأشياء وواقعيتها، يصبح من المستحيل تحقيق تواصل حقيقي أو تكامل معها. فمثلاً، وجود الطبيعة يعني أن لها حقوقاً يجب أن نلتزم بها. يمكننا تسخيرها لمصلحتنا، وهذا حق لنا عليها، وفي المقابل يجب علينا المحافظة عليها ورعايتها، وهو حقها علينا. إن الاعتراف بوجود الطبيعة وحقوقها يدعو إلى التكيف معها بأسلوب متوازن، بما يضمن الحفاظ على هذا التوازن الذي يحفظ حياة الإنسان والطبيعة معاً.

ومن هذا المنطلق، تُبنى شرعية الحقوق ليس فقط على أساس المنفعة الذاتية، بل على الاعتراف بالوجود الموضوعي للأشياء وقيمتها الجوهرية. بهذا الفهم العميق، تتضح العلاقة الوثيقة بين الإيمان والبيئة، حيث يُصبح الإيمان دافعاً أصيلاً لحماية الطبيعة ورعاية حقوقها.

وبذلك يتحول الإيمان إلى إدراك شامل لحقيقة وجود الإنسان في هذا الكون، ودوره كجزء من شبكة مترابطة من الكائنات والمخلوقات، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التوازن الدقيق في قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ).

هذه الآية تحمل رسالة مزدوجة: الدعوة إلى السعي لتحقيق الغايات الروحية دون إهمال المسؤوليات المادية، والحرص على عدم الإضرار بالطبيعة التي أوجدها الله بحكمة. إنها دعوة صريحة للاعتدال، حيث يتم التعامل مع البيئة بعقلانية واحترام.

فالإيمان الحق يترجم إلى أفعال مسؤولة تجاه البيئة. هذا المفهوم يتجاوز النظرة النفعية للطبيعة التي تعتبرها مجرد مورد يُستغل، إلى رؤية أكثر شمولاً تعتبر الطبيعة كائناً حياً له حقوق.

وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة". وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليفعل". هذا الحديث يعكس بوضوح أهمية العمل من أجل البيئة حتى في أصعب الظروف.

خاتمة:

 إن العلاقة بين الإيمان والبيئة ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي رؤية عملية يمكن أن تسهم في بناء عالم أكثر توازناً واستدامة. الإيمان، عندما يُفهم بشكل صحيح، يتحول إلى دافع للتغيير الإيجابي والعمل المسؤول.

في ظل التحديات البيئية المتزايدة التي يواجهها العالم اليوم، هناك حاجة ملحة إلى استعادة هذا الفهم المتوازن للإيمان، بحيث يصبح منارة تهدي البشرية نحو احترام الطبيعة ورعايتها، وضمان حق الأجيال القادمة في العيش على كوكب مستدام ومزدهر.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م