22 رجب 1446 هـ   22 كانون الثاني 2025 مـ 7:47 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-17   51

العدالة الإلهية بين مسؤولية الإنسان وتأثير الظروف

الشيخ معتصم السيد أحمد

في حياتنا اليومية، نتعرض لمجموعة من المواقف والأحداث التي تجلب لنا تساؤلات حول طبيعة الحياة والظروف التي تساهم في تشكيل مساراتنا المختلفة. إن تباين الأحوال بين البشر هو أمر لا يمكن تجاهله، حيث نرى البعض يولد في بيئات قد تساعدهم على الانخراط في الإيمان والعمل الصالح، بينما يولد آخرون في بيئات تضعهم في مواجهة تحديات وصعوبات قد تؤدي بهم إلى الانحراف أو الشقاء. فهل يكون هذا التباين في الظروف مسألة حتمية؟ هل اختياراتنا في الدنيا هي نتيجة خيارات سابقة في عالم الذر قبل أن نولد، أم هي اختيارات فرضها الله عز وجل على كل منا؟ وهل يمكن للإنسان أن يتحكم في مصيره في مثل هذه الظروف؟ هذه الأسئلة وغيرها تمثل جوهر النقاش حول مفهوم الشقاء والاختيار ومسؤولية الإنسان في حياته.

التباين في الظروف وأثره على الإنسان

تطرفت بعض النظريات الإنسانية فحمّلت الظروف مسؤولة اختيارات الإنسان، فاصبح الإنسان منزوع الإرادة تتحكم الظروف في جميع خياراته. فعلى سبيل المثال، الحتمية الاجتماعية، كما أشار إليها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، والتي ترى أن المجتمع هو الذي يفرض خيارات الإنسان، حتى الضمير الشخصي للأفراد ليس سوى انعكاس لمجموعة القيم والعادات التي يفرضها المجتمع، وبحسب تعبير دوركايم: "حينما يتكلم ضميرنا فان المجتمع هو الذي يتكلم فينا" فالإنسان ضمن هذا التصور لا يمتلك خياراته الخاصة وإنما المجتمع هو الذي يحدد له خياراته، فهو مجرد كائن يتبع ما يمليه عليه المجتمع.

وفي ذات السياق، قدم عالم النفس الشهير سيغموند فرويد نظريته في علم النفس التي تقود أيضاً إلى نوع من الحتمية، فالإنسان وفقاً لهذه النظرية يتأثر بدرجة كبيرة بما في داخله من رغبات وشهوات مكبوتة، فكل سلوك أو تصرف يقوم به الإنسان ليس ناتجاً عن إرادته الواعية، بل هو نتيجة لتأثيرات نفسية لاشعورية، وبحسب هذا التصور تصبح تصرفات الإنسان موجهة بشكل غير إرادي.

إضافة إلى ذلك هناك الحتمية الاقتصادية التي قد نراها بوضوح في تحليل كارل ماركس وأتباعه، حيث نظر ماركس إلى الحياة الاقتصادية باعتبارها القوة المحركة والمحددة لمصير الأفراد والمجتمعات. فالأفراد، وفقاً لهذه الرؤية، لا يمتلكون حرية تامة في اتخاذ قراراتهم، بل يتأثرون بشدة بالظروف الاقتصادية التي يفرضها النظام الطبقي السائد، وبالتالي، تصبح خياراتهم محدودة بواقعهم الاجتماعي والاقتصادي. فالطبقات الدنيا بسبب فقرها وعدم قدرتها على الوصول إلى الفرص التعليمية أو الاقتصادية، تجد نفسها محاصرة في دوائر من الفقر والجهل، مما يعوق إمكانياتها في تغيير مصيرها. وعلى النقيض، تنعم الطبقات العليا بفرص أكبر للتحكم في مصيرها، وبالتالي يمكنها استغلال الموارد لتحقيق مصالحها الخاصة.

وتنضم إلى هذه الحتميات، الحتمية السياسية التي ترى أن الأفراد يتأثرون بشدة بالأنظمة السياسية السائدة في مجتمعاتهم. فكلما كانت الأنظمة السياسية قمعية أو استبدادية، كلما قلت قدرة الأفراد على التعبير عن إرادتهم أو اتخاذ قراراتهم بحرية. وقد أشار العديد من المفكرين إلى أن الأنظمة السياسية قد تفرض على الناس نمطاً معيناً من التفكير والسلوك، بحيث يصبح الفرد جزءًا من نظام يحدد له خياراته ويمنعه من الخروج عن المألوف.

وعلاوة على ذلك، هناك الحتمية الطبيعية التي تشير إلى أن العوامل البيولوجية، مثل الجينات والوراثة، قد تكون مؤثرة بشكل كبير على طبيعة الإنسان وسلوكياته. فمثلاً، قد تؤثر الوراثة في طبيعة الشخصية وبالتالي تؤثر في استعداداته النفسية المسؤولة عن خياراته.

حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان

عندما نتحدث عن حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان، لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير الظروف المختلفة على الإنسان، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أو حتى بيولوجية. هذه العوامل قد تلعب دوراً كبيراً في تشكيل مسار الإنسان وتحديد الخيارات المتاحة أمامه. ولكن، ورغم تأثير هذه العوامل، لا يمكننا أن نصل إلى استنتاج مفاده أن الإنسان فاقد لإرادته أو أنه محكوم بالحتمية بشكل مطلق. ففي النهاية، يبقى الإنسان كائناً عاقلاً ذو إرادة قادرة على اتخاذ قراراته، ولا يمكن إلغاء هذه القدرة تحت وطأة الظروف أو العوامل الخارجية.

إن حرية الإرادة هي الأساس الذي يقوم عليه مفهوم المسؤولية. فلو كانت الحياة كلها محكومة بقوى خارجية لا يمكن للإنسان التغيير فيها أو التفاعل معها، لما كان هناك معنى للمسؤولية، فالمسؤولية لا تكون إلا في حالة وجود حرية في اتخاذ القرار، فإذا كان الإنسان محكوماً بالحتمية أو الجبر، فلا يمكن تحميله مسؤولية خياراته وأفعاله، لأن تلك الخيارات لم تكن نتيجة لإرادة حرة، بل كانت استجابة لظروف مفروضة عليه.

هذا المفهوم غير مقتصر على النظرية الفلسفية أو الفكرية، بل هو حجر الزاوية في الأنظمة القانونية والاجتماعية في مختلف المجتمعات. ففي المحاكمات القضائية، تُعتبر المسؤولية الشخصية عن الأفعال من المبادئ الأساسية، فالقوانين لا تعفي الأفراد من تبعات أفعالهم استناداً إلى ظروف خارجة عن إرادتهم ما لم تكن هناك حالة من الإكراه أو الجبر القسري الذي يمنع الإنسان من اتخاذ قراراته بحرية. على هذا النحو، إذا ثبت أن الإنسان كان حراً في اتخاذ قراراته، فإنه يتحمل المسؤولية عنها، ويُحاسب عليها سواء كانت تلك القرارات جيدة أو سيئة.

في الدين الإسلامي، يظهر هذا المفهوم بوضوح، حيث يُعتبر الإنسان مسؤولاً عن أفعاله أمام الله تعالى. ورغم أن الإسلام يعترف بتأثير الظروف المحيطة على الإنسان، فإنه يؤكد أن المسؤولية النهائية تقع على الفرد نفسه فيما يتعلق باختياراته في مختلف مواقف الحياة. حتى في ظل الظروف الصعبة أو القاسية، يظل الإنسان محاسباً على قراراته واختياراته. ويستثنى من ذلك حالات الإكراه والجبر فلا يُحاسب الإنسان على أفعال لا تصدر عن إرادة حرة، بل يعفو الله عنها لأنها تقع خارج نطاق قدرته واختياره

العدالة الإلهية والظروف المتفاوتة

إحدى التحديات التي يطرحها موضوع المسؤولية الفردية والاختيار الحر هي تلك الظروف التي قد تضع الإنسان في وضع لا يمكنه فيه أن يختار بحرية. هذه الظروف التي قد تشمل الفقر المدقع، أو التنشئة الاجتماعية غير المستقرة، أو التحديات النفسية العميقة التي تجعل من الصعب على الشخص اتخاذ قراراته بحرية تامة. هنا يتبادر السؤال: كيف يمكن التوفيق بين المسؤولية الشخصية والظروف التي قد تؤثر بشكل كبير في خيارات الإنسان؟ وإذا كانت هذه الظروف قاهرة إلى حد ما، كيف يمكن تحقيق العدالة الإلهية في المحاسبة بين الناس في الآخرة؟ فمثلاً هل يكون عقاب الغني الذي يسرق متساوي مع عقاب الفقير الذي يسرق لحاجة قاهرة؟

في الإسلام، العدالة الإلهية ليست مجرد مبدأ نظري، بل هي أساس محوري يطمئن إليه المؤمن. يؤكد القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى هو العادل المطلق الذي لا يظلم أحداً. كما يقول عز وجل: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49). هذه الآية تُبرز أن الله سبحانه وتعالى يعلم تماماً الظروف التي يمر بها كل إنسان، ويدرك تأثيرها على أفعاله. العدالة الإلهية لا تقتصر على النظر إلى ظاهر الأفعال، بل تتجاوز ذلك لتشمل نوايا الإنسان، وإرادته، والقيود التي فرضتها عليه بيئته وظروفه.

وكذلك، تؤكد الآية الكريمة في سورة البقرة على مبدأ العدالة المطلقة عندما تقول: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 286)، مما يشير إلى أن الله لا يحمّل الإنسان من المسؤولية إلا ما يمكنه تحمله، ويعلم تماماً حدود طاقته وإرادته. وهذه الآية تقدم لنا دليلاً واضحاً على أن الله عز وجل لا يضع عبئاً على الإنسان إلا بما هو في مقدوره.

ففي حالة تباين الظروف، مثلما نجد شخصاً يولد في بيئة إيمانية تساعده على الإيمان والصلاح، وآخر يولد في بيئة تعوقه أو حتى تدفعه نحو الانحراف، فإن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً بسبب هذه الفوارق. فكل إنسان سيتحمل مسؤوليته وفقاً للظروف التي وُضع فيها وقدرته على اتخاذ الخيارات ضمنها. 

فالله سبحانه وتعالى يحاسب بعض العباد بالدقة والاستقصاء ، ويحاسب البعض الآخر بالعفو والإغماض، فمثلاً من ساعدته الظروف على كمال عقله وإيمانه سيحاسب حساباً دقيقاً ، بخلاف من لم يبلغ تلك المرتبة من العقل والوعي فانّه يحاسب دون ذلك. ففي الحيث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ ما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة علىٰ قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا". (شرح أصول الكافي، المازندراني ج1 ص 79)

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال: "إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان ، للحساب كلاهما من أهل الجنة ، فقير في الدنيا ، وغني في الدنيا ، فيقول الفقير : يا ربّ علىٰ ما أوقف ؟ فوعزتك إنّك لتعلم أنّك لم تولّني ولاية فأعدل فيها أو أجور ، ولم ترزقني مالاً فأُؤدّي منه حقاً أو أمنع ، ولا كان رزقي يأتيني منها إلّا كفافاً علىٰ ما علمت وقدّرت لي ، فيقول الله جلّ جلاله : صدق عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة. ويبقى الآخر حتّى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها ، ثمّ يدخل الجنة ، فيقول له الفقير ، ما حبسك ؟ فيقول : طول الحساب ، ما زال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي ، ثمّ اسأل عن شيء آخر حتى تغمّدني الله عزّ وجلّ منه برحمة وألحقني بالتائبين ، فمن أنت ؟ فيقول : أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً ، فيقول : لقد غيّرك النعيم بعدي". (الأمالي للصدوق، ص 441)

وكذلك قد يختلف الحال في درجة الثواب على الأعمال، فالغني الذي يتصدق بمليون دولار قد يكون أجره مساوي أو اقل من الفقير الذي يتصدق بدولار واحد، وكذلك الحال في المعاصي فمثلاً من يسرق وهو محتاج لا يحاسب كمن يسرق وهو غير محتاج، فالله قد يغفر لعبد من عباده كل ذنوبه بينما يحاسب الآخر حساباً عسيراً، فهناك مسلمة يجب الارتكاز عليها لفهم هذه القضية وهي أن الله عادل لا يظلم عنده أحد، بل أن رحمته سابقة لعدله، فالله اكثر حرصاً على الإنسان من الإنسان على نفسه، وبما أن حياة العبد في الدنيا قائمة على توفيق الله ورحمته كذلك حال العبد في الآخرة يقوم على فضل الله ورحمته، فحتى لو سلمنا بتأثير الظروف على خيارات الإنسان فيجب أن نسلم أيضاً بأن ذلك لن يقود ابداً إلى الظلم بين العباد يوم القيامة، فقد تتساوى درجاتهم في الدنيا حتى لو كان بعضهم اكثر عملاً من عمل البعض الآخر. 

وفي سياق العدالة الإلهية التي تراعي الظروف المحيطة بالإنسان، يظل الفرد معذوراً إذا لم يكن له مهرب أو وسيلة لتجاوز تلك الظروف التي تقيده، أما إذا كان بإمكانه تفادي هذا الظرف أو تغييره ولم يفعل، فإنه يتحمل المسؤولية الكاملة عن اختياراته.

هذا المبدأ يتضح جلياً في القرآن الكريم في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (النساء: 97-98).

هذه الآية توضح أن الله سبحانه وتعالى لا يُعذر من يمتلك القدرة على الهجرة من الظلم أو تجاوز ظرفه الصعب ولكنه يتقاعس عن ذلك، فيُحاسب على تقصيره وظلمه لنفسه. أما أولئك الذين لا يملكون حيلة، أو لا يستطيعون اتخاذ خطوة لتغيير واقعهم بسبب ظروف قاهرة، فهم مستثنون من هذا الحساب.

هذا التفصيل يُبرز توازن العدالة الإلهية بين الرحمة والمسؤولية. فالإنسان لا يُحاسب على ظروف قهرية خارجة عن إرادته، ولكنه يُسأل عن تقصيره في اتخاذ الخيارات المتاحة لتغيير وضعه. ومن هنا، يُفهم أن المسؤولية في الإسلام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرة الإنسان على الفعل وامتلاك الوسائل اللازمة لتجاوز الظروف.

وهذا هو ما يميز العدالة الإلهية عن العدالة البشرية، حيث قد تعجز الأنظمة القضائية عن مراعاة كافة العوامل التي تؤثر في الفرد. ولكن الله، الذي يعلم السر وأخفى، يزن كل شيء بميزان دقيق وعادل، ويعطي كل إنسان حقه الكامل في الآخرة، حيث لا يظلم أحد.

خاتمة:

إن العدالة الإلهية تُبرز عظمة الحكمة الربانية في خلق الإنسان ومنحه حرية الاختيار ضمن حدود قدراته وظروفه. فلا يُحمِّله الله فوق طاقته، ولا يُحاسبه إلا وفق ما أتيح له من خيارات وإمكانات. وفي الوقت نفسه، تبقى المسؤولية الشخصية هي المحور الأساسي الذي يُقيم عليه الإنسان أفعاله، إذ يُحاسب على ما كان في مقدوره تغييره أو تجاوزه.

هذا التوازن بين الرحمة والعدالة يجعل من الحساب الإلهي في الآخرة نموذجاً أسمى للإنصاف الذي يعجز البشر عن تحقيقه كاملاً في أنظمتهم القضائية والاجتماعية. فالإنسان في الإسلام ليس مسلوب الإرادة أمام الظروف، بل يُعتبر فاعلاً مسؤولاً عن أفعاله ما دام يمتلك القدرة على الاختيار. ومن لا يملك هذه القدرة بسبب ظروف قاهرة، فإن رحمة الله تسبقه وتُخفف عنه الحساب، وهو ما يُؤكد شمولية وعدل الدين في مراعاة الفوارق بين الناس وظروف حياتهم المختلفة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م