22 رجب 1446 هـ   22 كانون الثاني 2025 مـ 8:01 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-21   24

السر وراء قلة اتباع الحق وكثرة أتباع الباطل


الشيخ باسم الحلي
قال العقلاء على مرّ الزمان، وهو ما يشهد به الوجدان: إذا كان بناء بيت يستغرق شهراً؛ فإنّ هدمه لا يحتاج إلّا ساعة، لكن هل هناك أسباب أخرى لتقييم ما هو صعب وما هو سهل يسير؟!.

الأسباب كثيرة، وهي دائرة مدار دهماء النّاس، وهم الأكثر دائماً، وليس بالضرورة أن يكون هذا الأكثر جاهلاً أمّياً لا يعرف القراءة والكتابة؛ ليصعب عليه قبول الحقّ، ويستسهل الباطل، قد يكون طبيباً أو مهندساً أو أستاذاً جامعيّاً، فإنّه يكفي لتغييب العقل أو تجميده، بل إعدامه، حتى لبعض علماء الفلاسفة والمفكرين، تدجينه بالمؤثرات السياسية، والموروثات الاجتماعية، واستهجان كلّ جديد، ناهيك عن تأثير المصالح الشخصيّة، والميول العاطفيّة..

لم يكن أوّل من عارض غاليليو في مركزية الشمس، وآينشتاين في النسبيّة همّ جهلة الناس، بل علماء عصريهما، وأهل النفوذ والسلطة الرازحين تحت وطأة الكنيسة ومن دجنتهم من أتباعها، مع أنّ ما جاء به غاليليو حقيقة هي الأكثر نصوعاً في الفيزياء اليوم..

على هذا المنوال فالدعوات الإصلاحية التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام، جوبهت بضراوة، مع انّها لا تدعو إلّا لعبادة من يأمر بالخير والإحسان واحترام الإنسان، ونبذ الشرور والشيطان..

لم يكن عند السيد المسيح عيسى عليه السلام، إلّا أنّه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي المرضى بالمجان، بلا أدنى مقابل، كان كما هو شأن كلّ الأنبياء، يدعو إلى عبادة الواحد الأحد سبحانه واحترام كرامة الإنسان.
اليهود أيضاً كان يدعون إلى عبادة الواحد؛ لكنهم بذلوا الأموال، لشراء ذمة القضاء الروماني ليحكم بقتله وصلبه.

كان الشعبان الروماني الوثني، والإسرائيلي اليهودي، صفّاً بصف مع كبرائهم في ضرورة التخلص منه، لم تقدم أدلّة جنائيّة سوى تهديد مقام الامبراطور، وأنّ عيسى يريد أن يكون ملكاً أرضياً. مهما كان؛ فإنّ الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا هي سرعة الحكم بلا تأن وعقل. 

يمكن تلخيص عدّة أسباب لبيان ذلك، بما هي مجموع، كالآتي:

السبب الأوّل: غياب العقل.

قال فريديريك نتشة في أصنامه: «يستطيع المرء أن يكون عالماً كبيراً، دون أن يكون له أدنى قدر من العقل». (أفول الأصنام: ص 66).
قال نتشة هذا؛ لأنّ ألمانيا على مدى ألف سنة، ألغت عقلها، تحت وطأة الكنيسة المسيحيّة الأوربيّة، مستسلمةً للخمر، والموسيقى البرجوازيّة الثقيلة ..

كلّنا يعرف أنّ رؤساء قريش المشركين، كانوا أذكى الناس، وأدهى الناس، وأبرع النّاس في السياسة، وأمهرهم في التجارة والإدارة مع القارات الاخرى، كما تشهد سورة قريش (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) ..

كانوا أصفى الناس قريحة في الشعر والأدب والتغني بمكارم الأخلاق؛ لكنّهم مع كلّ هذا أسرى الملك والسلطة والكرسي والترف الهدّام؛ دجنوا عقولهم وأخلاقهم ومهاراتهم وقرائحهم، بما يتناسب مع واقعهم هذا..

لم يكن السبب هو فكرة الإله، ولا أنّه هو الواحد سبحانه، ولا معارضة الأوثان بما هي أوثان، وإنّما ما تنطوي عليه فكرة الإله من تهديد لموروثهم الطبقي، وسطوتهم الماديّة، وسلطتهم الاعتباريّة، القائمة على استعباد من عداهم من البشريّة، وانهيار الإنسانيّة، وموت العقل والفطرة، وامتهان كرامة الحريّة، حتى مع زعمهم أنّهم في تقدم وارتقاء، من حيث أن زمام التجارة والسياسية والثراء والترف والسيادة بأيديهم فقط.

السبب الثاني: تغييب العقل.

التفت أهل الاستكبار إلى أنّ الطريقة الوحيدة لتغييب العقل، هو العناد والجحود، وهذا لا يحصل إلّا بعد الاستغراق في الحَيّوَنة، بالترف المادي والملذات البدنيّة؛ ليستعيض عنه بوهم يشبه العقل، وهذا يصعب عليه جداً قبول الحق والحقيقة.. 
قال تعالى: (قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) .  

قال نتشة في الشعب الألماني: «هذا الشعب قد تلبّد عمداً منذ ما يقرب من ألف سنة، أفرط بشكل معيب في استعمال الكحول والمسيحيّة، هذان المخدران الأوربيان المشهوران، انضاف إليهما مخدر ثالث، هو الموسيقى، يكفي لتوجيه ضربّة لكل سرعة خاطر مقدامة ودقيقة...، العقل الألماني بدأ يصير أكثر فضاضة». (أفول الأصنام: ص 66).

قال أريك فروم: «إنّ التقدم التكنلوجي قد خلق مخاطر...، يمكن أن تكون السبب في انهاء كل أشكال الحضارة...، وربما كل أشكال الحياة على ظهر الكوكب...، لقد أصبح الإنسان كائناً أعلى من سوبرمان، ولكن لم يرتفع لمستوى عقلائي، إنه ليزداد فقراً بقدر ما يزداد قوّة، وأحرى بضميرنا أن ينتابه القلق ونحن نتجرد من إنسانيّتنا، كلّما اقتربنا من حالة السوبرمان=الإنسان الأعلى». (الإنسان بين الجوهر والمظهر، أريك فروم: 16)    

إذ لا علاقة وثيقة للذكاء التكنلوجي، بالثقافة الإنسانيّة التي تعني الصواب إدراكاً وعملاً؛ فما عمله هتلر في كل المجالات التي تعاطاها، غاية في الذكاء، لكنّه لا يمت للثقافة (=الإنسانيّة)، والتي هي عند نتشة العقل، بأي صلة.

السبب الثالث: تشوّه مفهوم الثقافة بين السياسة والإنسان

قال نتشة-بتصرف يسير-: «إذا أنفقنا، على القوّة، على السياسة الكبرى، على الاقتصاد، على المبادلات الدوليّة، على البرلمانيّة، على المصالح العسكريّةـ كل ما نملك من ذكاء وجديّة وإرادة وسيطرة على الذات؛ فإنّ كل هذا سينعدم في الجانب الآخر..؛ الثقافة والدولة نقيضان...، كلّ العصور المزدهرة للثقافة، هي عصور انحطاط سياسي، كلّ ما هو عظيم في جانب الثقافة، كان دائماً غير سياسي، بل ومضاداً للسياسة». (أفول الأصنام: ص 68).

يقصد نتشة من الثقافة أعلاه، كما هو واضح من كتابه: العقل الذي أنتج واكتشف كلّ ما هو مرتفع عن حضيض التدجين السياسي، والآراء السائدة المثقلة بالموروث السلطوي، الآخذ بكرامة الإنسانيّة إلى الانحدار..

لا نرتاب أنّ أوّل من يعارض الأنبياء والمصلحون وأهل الحقيقة والاكتشاف في كل مجالاتها، هم أهل السلطة والمال والطغيان؛ ليس لأنّهم لا يريدون التطوّر والتقدّم والاكتشاف والإصلاح..، وإنّما ما لا يصبّ في مجرى وجودهم الراديكالي مادياً ومعنوياً..

معروف أنّ أشدّ من عاند الأنبياء وكتب السماء، عبر التاريخ، هم كهنة وأحبار المعابد، والسبب ضياع ما هم فيه من سلطة ومال ووجاهة بين الناس، كما أنّ أقوى وسيلة لأهل السلطة والسياسة، في طول ذلك أو عرضه، هو استمالة الرأي العام بالدين، ولا أفضل من الكهنة بعد امتلاء كروشهم..

أشدّ من عاند النبي والقرآن من عتاة رؤساء قريش، هم سدنة الكعبة، والسبب واضح لأنّ سياسة مشركي قريش في استعباد النّاس، ونجاح تجارتهم مع البلدان الأخرى، متوقف على تفردهم بسلطة حيازة البيت الحرام.

السبب الرابع: تحشيد الرأي السائد: رأي الأكثر

في صحيح أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في قول الله: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)؟!.
فقال عليه السلام: «والله ما صلوا لهم ولا صاموا، ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً، فاتبعوهم». (المحاسن: 246، رقم: 245).
 
قال أريك فروم: «إنّ حلمنا بأن نكون السادة الأحرار لحياتنا قد انتهى، وذلك عندما بدأنا ننتبه إلى أننّا جميعاً قد أصبحنا مجرد تروس في الآلة البيروقراطيّة، وأن الصناعة والحكومة وأجهزتهما الإعلاميّة، هي التي تشكل مشاعرنا وأفكارنا وأذواقنا وتتلاعب بها كما تريد». (الإنسان بين الجوهر والمظهر، أريك فروم: 16).
    
بل هو رأي الكلّ، باستثناء من وقع على عاتقه إعادة صياغة التاريخ والإنسانيّة، شرّاً كان أم خيراً، وهم المصلحون وأهل الحقيقة..

على أيّ حال فالرأي السائد، خيراً كان أم شرّاً، خطأ أم صواباً، هو رأي أكثر النّاس، سواء أكانوا رجال دين كقساوسة كاثوليك أوربا، أم أهل سلطة، أم أهل الجهل من دهماء الشعب الذين ينعقون مع كل ناعق..

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «النّاس ثلاثة عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق». (الخصال: 186، رقم: 257).

الملاحظ أنّ الخير، المختنق بركام الجهل، وسطوة السلطة، وتهمة الهرطقة، غير مألوف، ومن السهولة -لكونه غير مألوف وغير مستساغ- أن يُدحض ويرفض ويجابه بلا حاجة لأي برهان وإثبات واستدلال، ناهيك عن التجربة والمختبر..

لا شك ولا ريب أنّ الخمر، مخدر إنساني قادر بكل جدارة على تجميد العقل، وإضعاف القوّة، وتشتيت التركيز، وإمراض الأعضاء، وانهيار الثقافة (عقل الإنسانيّة)، كما ذكر نتشة أعلاه..

وكما كتب الطبيب بنجامين رش (أحد الآباء الأوائل المؤسسين لأمريكا) قال: «السُكر المسرف في شرب الكحوليات، ذا آثار جسيمة على الصحة البدنية والنفسية للإنسان، إنّه مرض».
 ( Blocker, Jack S. (1989) American Temperance Movements: Cycles of Reform. Boston: Twayne Publishers. pp. 10 )

أصدرت أمريكا قانوناً فيدرالياً يحظر تصنيع المشروبات الكحولية في الولايات المتحدة (في الفترة ما بين 1920 – 1933) وقد كان أهم أسباب ذلك، توفير القمح لإطعام الشعب، بدل تخميره، ولإبقاء العمال أصحّاء في حالة نشاط منتج.

أثار القانون جدلاً واسعاً في كلّ ولايات أمريكا آنذاك؛ وصف المؤيدون هذا المنع بالتجربة الإنسانيّة الأخلاقيّة النبيلة، وأنّه انتصار للأخلاق الحميدة، الداعية لصحّة عامة البشر من هذا الداء، وفي المقابل اتهم المعارضون المؤيدين أنّه رأي ديني بروتستانتي منافي للحريّة الرأسماليّة، التي نادت بها قوانين الدولة الوضعيّة في أوربا وأمريكا حين التأسيس. أيّ الرأيين هو المنتصر، في سجال الصراع هذا؟!!. 

يقول ميكافلي في كتاب الأمير -بتصرف-: «طبيعة البشر تميل إلى تجنّب المخاطر، وتحقيق المنافع السهلة».

مهما شككنا في شيء فإنّه لا يمكن الشكّ أنّ الرأي السائد للشعب السكران الولهان بالخمر أولاً، ولأرباب مصانع الخمور من كبار رأسماليي الولايات المتحدة الذين ليس في قاموسهم الخسارة التجاريّة ثانياً، علاوة على نشوء السوق السوداء المُدار من قبل المنضمات الإجراميّة ثالثاً، ناهيك عن ارتفاع نسبة الفساد بين السياسيين ومنسوبي أجهزة الأمن بسبب الرشاوي رابعاً... .
بسبب كلّ ذلك فشلت دولة أمريكا فشلاً ذريعاً في الاستمرار بتنفيذ قانون المنع، فاضطرت إلى إلغائه عام 1933م.

السبب الخامس: كسل العقل أمام جبروت الجهل

قال فرنسيس بيكون في الأورغانون: «الإنسان أميل إلى تصديق ما يفضّله، ولذا فهو ينبذ الأمور الصعبة؛ لأنّها تجشّمه الصبر في البحث، وينبذ الاعتدال؛ لأنّه يضيّق حدود أمله، وينبذ التعمّق في الطبيعة؛ لأنّه مرتهن للخرافة، ويرفض نور التجربة؛ لأنّه متغطرس مكابر، يظن أنّه لا يليق بالعقل أن يهدر وقته، في أشياء مبذولة متغيّرة، ويرفض كلّ ما هو غير تقليدي؛ خوفاً من رأي العامّة». (الأوراغنون الجديد: 25)  

وقال القرآن العظيم: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام: 116) .

وقد بيّنا أعلاه أنّ هذا لا يمكن أن يحدث عند الإنسان، إلّا بعد إجراء عمليّات تغييب العقل، وأقوى وسيلة له إباحة الخمر والنساء والموسيقى المقترنة بهما.

قال غوستاف لوبون: «لما كانت الجماهير عاجزة عن التفكير، إلّا بواسطة الصور؛ فإنّه لا يمكن جذبها والتأثير عليها إلّا عن طريق الصور، ووحدها هذه الأخيرة ترعبها أن تجذبها، وتصبح باعثاً على العمل والممارسة». (سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ص: 88).

يقصد لوبون من الصور، مظاهر الأشياء وأشكالها، دون جواهرها وحقائقها. 

لا قيمة لكلّ إنسان، حتى غير الموحد، إلّا بعقله وتفكيره وتأملاته، للوصول إلى الغاية العظمى وهي السعادة الدائمة، إذ ليس شرب الخمر والجنس ورغد العيش الراديكالي سعادة دائمة؛ فمهما شككنا في شيء لا نشكّ أنّ ما يعقب السكر ونزوة الجنس وحتى رغد العيش، استياء ما..

سبب الاستياء معروف إجمالاً عند الأكثر، وإن خفيت تفاصيله، لا أقل لكونه مقترن بالطبقة البرجوازيّة الغنيّة من أهل السطوة والمال، وهؤلاء كما هو معلن في تاريخ سقوط الحضارات، لا دوام لهم؛ فوجودهم في التاريخ مؤقت وكذلك لذّاتهم ونزواتهم، عدا هذا ليس كلّ النّاس أهل سلطة ومال، مع ذلك هم سائرون على منهج لذّة الأغنياء، أو: اللذة الراديكاليّة كما يسمّيها أريك فروم تبعاً لمن قبله من الفلاسفة والمفكرين، واللذة الراديكالية تعني فيما تعني: «اللذة المنافية لقواعد العقل والأخلاق» (انظر الإنسان بين الجوهر والمظهر، أريك فروم: 17).

قال سبحانه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (الإسراء: 16)

هم سائرون على منهجهم، بلا أدنى تفكير أنّ وجودهم مؤقت، لا دوام له؛ ولقد تصافقت كلمة أغلب فلاسفة التاريخ أنّ كل حضارة ساحقتها السياسة والسلطة ولذة الراديكال، هي ساقطة ميتة لا محالة.

قال القرآن الكريم في بيان قانون سقوط تلكم الحضارات: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (يوسف: 109).
وقال سبحانه: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46)
لكن مع كلّ ذلك، يرتضي أغلب النّاس الخلود إلى أرض العاطفة؛ تكاسلاً عن الارتقاء إلى سماء العقل؛ إذن لا تقارن مشقّة الارتقاء براحة الخلود إلى الأرض؛ لذلك قال القرآن: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنعام: 32).

قال عمانويل كانط: «الكسل والجبن، هما السبب وراء بقاء النّاس في حالة من القصور العقلي، ممّا يجعلهم يتبعون الآخرين، ويصدقون الخرافات، دون تفكير». (مقالته: ما هي الأنوار= ما الأنوار).

غاليليو غاليلي، بداية القرن السابع عشر، أثبت أنّ الشمس هي مركز المجموعة الشمسيّة، وأنّ الأرض وبقيّة الكواكب، تدور حولها، مصحّحاً الرأي السائد أنّ الأرض هي مركز الشمس؛ فما كان من المسيحيّة (الكنيسة الأوربيّة) وهو أدنى أساليبها في السجال، غير اتهامه بالهرطقة والخروج من الدين.

يعتمد معرفة طريق الحق وضوء الحقيقة، إلى إعمال بصر العقل، بالخروج من زنزانة التدجين، وسجن الموروث، وهذا أمرٌ صعب قياساً بالانصياع السهل للجهل والباطل..

النبي، المصلح الصادق، والعالم المخلص لعلمه في مجاله كغاليليو، يحتاج ليتسنى له أن يفوه بما عنده من حق وحقيقة، إقامة براهين تلو البراهين لإثبات ما جاء به، في حين لا يحتاج أهل التدجين العقلي، ومنهم أغلب علماء الفيزياء المدجنون في زريبة الكنيسة والسلطة، ناهيك عن بقيّة الدهماء من أهل الجهل الذين ينعقون مع كل ناعق، وهؤلاء هم الأكثر دائماً؛ إذ لا يقابلهم في الطرف الآخر إلّا غاليليو لا غير ...

لا يحتاج هؤلاء، لمشروعيّة معارضتهم وتسفيههم، ما جاء به المصلحون وأهل الحقيقة، كلٌ في مجاله، أمثال غاليليو، لأكثر من كلمة رفض بسيطة؛ وأقوى برهان عندهم هو: كثرتهم أولاً، وسطوتهم ثانياً، وموقف الكنيسة (ومن يقوم مقامها من الكهنة في التاريخ) ثالثاً، وكلّنا يعرف أنّ غاليليو اتهم بالهرطقة، أي: الكفر أو الارتداد أو الابتداع في الدين.

لم يتناس القرآن هذا في: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (الفرقان: 44)

مأساة العقل الإنساني=إنكار البديهيّات نموذجاً!!

من الأمثلة الجليّة على ذلك، الكفّ عن تفعيل العقل قليلاً؛ ليدرك علاقة المعلول بالعلّة، وأنّ المعلول، لكونه مفعولاً يستحيل أن يتصف بالقدم؛ إذ القدم صفة للفاعل لا المفعول، بهذا التدجين= التكاسل لمعرفة امتناع وجود المعلول بلا علة، أنكروا وجود الإله إلى غير رجعة..

الوضعيون (=الماديّون) اليوم وأكثرهم ملاحدة، وجدوا من نظرية دارون في أصل الأنواع، حلّاً جاهزاً يرضي عقيدتهم في إنكار الإله، وأنّ أصل الحياة هي المادة، ثمّ الخلية الأولى التي تطورت لتكون حيواناً وشجراً وإنساناً..

لكن هل تسائلوا -بجديّة- من أعطى هذه المادة الحياة؛ لتكون خليّة حيّة؟!.

الحاصل: لا يمكن قبول الحق إلّا بتفعيل العقل، وما دام العقل مغيّباً بالترف الراديكالي، أو مجمّداً بالكسل الإنساني..

لذلك فإنّ هم الأنبياء الأوّل في دعوة النّاس، هو إثارة دفائن العقول؛ إذ لن يقبل أحدٌ بالحق والحقيقة غيرهم (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)..

أيّ نبي لم يبث شريعته في أمّته إلّا بعد ذلك؛ النبي محمد صلى الله عليه واله على سبيل المثال لم يعلن عن تفاصيل شريعته إلّا بعد الهجرة، أي: بعد ثلاثة عشرة سنة من البعثة، أي: بعدما تكون العقول جاهزة لهضم الشريعة.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م