
2025-07-07 5894

لماذا نحيي عاشوراء؟
الشيخ مقداد الربيعي
في كل عام، تطل علينا ذكرى عاشوراء
بما تحمله من معانٍ عميقة وقيم خالدة، تهز القلوب وتحرك المشاعر،
وتدعونا للتأمل في حقيقة هذا الإحياء ومعناه الحقيقي. فما المقصود
بإحياء عاشوراء؟ وكيف نجعل من هذا الإحياء منطلقاً لتجديد أرواحنا
وإصلاح مجتمعاتنا؟
إن مصطلح "الإحياء" يحمل في طياته
معنى عميقاً وهدفاً سامياً، فعندما نتحدث عن إحياء عاشوراء، فإننا
لا نعني مجرد إقامة المراسم والطقوس على شرافتها، بل نعني شيئاً
أعمق وأجل من ذلك. فعندما نستخدم مصطلح الإحياء، فهذا يعني أن هناك
معنى أو قضية ما نعمل على إحيائها، وبتعبير أصح، نحن نعمل على إحياء
أنفسنا بهذه القضية، وإحياء قلوبنا بالمعاني التي تتضمنها هذه
القضية.
الإحياء الحقيقي لعاشوراء يعني أن
نبعث في قلوبنا وأرواحنا تلك المعاني السامية التي جسدها الإمام
الحسين عليه السلام في ثورته المباركة، وأن نجعل من قيمه ومبادئه
منهاج حياة نسير عليه، لا مجرد ذكريات نستحضرها في مناسبة معينة ثم
ننساها.
من هنا لابد من التوقف عند تلك
المعاني المراد احيائها في النفوس، فكثيراً ما يتم تصوير أحداث
كربلاء على أنها مجرد ذكرى لحفيد الرسول الذي قُتل مع عائلته، فعند
هؤلاء تحكي عاشوراء عن رجل خرج معترضاً على جماعة، ولم يتركوا له
خياراً غير القتل او المذلة، فأبى واختار التضحية بنفسه وولده
وصحبه، وسبيت نساؤه بطريقة إجرامية بشعة للغاية، تدمي القلب، وتثير
تعاطف القاصي والداني مع هذه التراجيديا العاشورائية.
وفقًا لهذه النظرة، قد تُفسّر حركة
الإمام الحسين السلام انطلاقا من هذه القيم الأخلاقية، ويتم إرجاع
المواقف التي اتخذها عليه السلام والتي اتصفت بالعزة والإباء، ورفض
الذل إليها.
لكن المسألة ليست على هذا النحو،
ولا يمكن اختزالها بها. وليس صحيحًا العمل على إعطائها بعداً شخصيًا
محضًا، فنهضة الإمام الحسين لم تنطلق من مبدأ الحفاظ على الكرامة
الذاتية فقط ـ وإن كانت معاني الإباء، وحفظ الكرامة، ورفض الذل
والخنوع، قيمًا ممجدة إسلامياً ـ فنحن نعتقد بأن الإمام الحسن
السلام قد وجد في قبول الصلح مع معاوية خطوةً تخدم الدين، وتؤدى
الهدف الإصلاحي الذي يحمله.
حين نتحدّث عن الإمام الحسين الله
وعن ذلك البعد المعصوم أو الغيبي في شخصيته، فإنّ كل القيم التي
تجلت في سلوكه وسيرته ومسيرته، إنما تجلت من باب الانتصار لله
سبحانه وتعالى ولرسالات الأنبياء.
فقد كانت ثورة الإمام الحسين عليه
السلام ثورة شاملة، لا تقتصر على بُعد واحد، بل تتجاوز الحدود
الزمانية والمكانية لتصل إلى كل قلب يبحث عن الحق والعدالة. فهي
ليست مجرد حدث تاريخي انتهى بانتهاء زمانه، بل هي ثورة حية قائمة
الى يوم الدين. فالأهداف التي سعى الإمام الحسين عليه السلام
لتحقيقها تتجاوز حدود الزمان والمكان، وهي أهداف إنسانية خالدة:
العدالة، والحرية، وكرامة الإنسان، ومحاربة الظلم والفساد، وإقامة
القسط. هذه القيم لا تشيخ ولا تبلى، بل تبقى حية نابضة في كل عصر،
تنتظر من يحييها في نفسه ومجتمعه.
الإحياء الوجداني: طريق إلى
التغيير
من الخصائص المميزة للحدث
العاشورائي أنه يجمع بين البُعد الفكري والبُعد الوجداني، فهو يخاطب
العقل والقلب معاً. وهذا التفاعل الوجداني ليس هدفاً بحد ذاته، بل
هو وسيلة لتهيئة القلب لتلقي المعاني الأعمق والقيم الأسمى.
فالفكرة المجبولة بالدمعة هي أقرب
إلى النفس من الفكرة المفطومة عنها، فالدمعة التي تنهمر عند ذكر
مصاب الحسين عليه السلام إنما هي دمعة الحب والولاء، وهي في الوقت
ذاته دمعة الندم على التقصير، ودمعة العزم على التغيير
والإصلاح.
لكن كيف نقيس صدق إحيائنا
لعاشوراء؟ وما هو المعيار الحقيقي لهذا الإحياء؟ إن المعيار الأساسي
يكمن في مدى تأثير هذا الإحياء على سلوكنا وأخلاقنا وتعاملنا مع
الآخرين. فعلينا أن نسأل أنفسنا هل زاد ورعنا بعد حضورنا لهذه
المجالس الحسينية أم لا؟ هل زادت تقوانا؟ هل أصبحنا أكثر طاعة لله
تعالى، وأشد عدلاً، وإنصافاً وتمسكاً بالدين أم لا؟
الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي
تحدد حقيقة استفادتنا من إحياء عاشوراء. فالمقياس الحقيقي ليس في
عدد المجالس التي نحضرها أو المبالغ التي ننفقها، بل في مدى التغيير
الإيجابي الذي يطرأ على شخصيتنا وسلوكنا.
الإحياء على المستوى
المجتمعي
وكما أن الإحياء يجب أن يؤثر على
الفرد، فإنه يجب أن يمتد تأثيره إلى المجتمع ككل. فالمجتمع الذي
يحيي عاشوراء حقاً هو الذي يزداد فيه الاستعداد للتضحية والإيثار،
أو الاستعداد للبذل والعطاء من أجل الدين، أو الإصلاح ومواجهة
الفساد، أو رفع المستوى الأخلاقي الذي يؤسس لإقامة العدل.
إن المجتمع الذي يحيي عاشوراء بصدق
هو مجتمع يسعى للإصلاح والتطوير، مجتمع يرفض الظلم والفساد، مجتمع
يؤمن بالعدالة ويعمل على تحقيقها في جميع مناحي الحياة.
إن الإحياء الحقيقي لعاشوراء يتطلب
منا أن نتجاوز حدود المراسم والطقوس إلى جوهر الرسالة الحسينية.
فنحن نحيي ثورة الإمام الحسين عليه السلام من أجل أن نحيي معاني
عاشوراء وكربلاء في أنفسنا. نحيي ثورة الإمام الحسين عليه السلام من
أجل أن يكون رجالنا على صورة الحسين عليه السلام ومن أجل أن تكون
نساؤنا على صورة زينب عليها السلام.
هذا هو التحدي الحقيقي الذي
يواجهنا: أن نجعل من أنفسنا انعكاساً حقيقياً لقيم عاشوراء، وأن
نكون امتداداً لرسالة الحسين عليه السلام في عصرنا الحاضر.
خاتمة: دعوة للتجديد
إن إحياء عاشوراء دعوة مفتوحة لكل
منا للتجديد والإصلاح، دعوة لأن نكون أفضل مما نحن عليه، دعوة لأن
نجعل من قيم الحسين عليه السلام منارة تضيء طريقنا في
الحياة.
وبمقدار ما نستطيع أن نحقق معاني
عاشوراء في أنفسنا، نكون صادقين في إحياء عاشوراء وبمقدار ما نستطيع
أن نحقق قيم كربلاء وقيم الإمام الحسين عليه السلام في أنفسنا، وفي
سيرتنا، وفي سلوكنا، وفي عاداتنا، وفي مجتمعاتنا نكون صادقين في
إحياء معاني كربلاء.
فلنجعل من عاشوراء محطة تجديد
وإصلاح، ولنعمل على أن نكون جديرين بهذه الذكرى المباركة، وأهلاً
لحمل رسالة الحسين عليه السلام في كل زمان ومكان.
الأكثر قراءة
32655
19440