الشيخ معتصم السيد أحمد
تُعَدُّ مسألة "آخر الزمان" من
أعظم القضايا التي أثارت اهتمام الفكر الإنساني، لما تحمله من رهبة
وغموض، ولما تمثله من مفترق طرق في فهم الإنسان لذاته ولمصيره.
فبينما ينظر الإسلام إلى آخر الزمان باعتباره مرحلة مقصودة ومرسومة
في مسيرة البشرية، حيث تتحقق فيها سنن الله ويُعاد فيها بناء العالم
على أساس العدل والحق بقيادة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله
فرجه)، نجد أن الفكر العلماني، بما يقوم عليه من فلسفات مادية صرفة،
يرسم صورة مغايرة تماماً يغلب عليها الطابع العبثي أو التفسيرات
الميكانيكية الباردة. ومن هنا تأتي أهمية هذه المقارنة التي تكشف أن
الاختلاف ليس في التفاصيل وحدها، وإنما هو تباين جذري في الأساس
الذي يقوم عليه كل تصور وفي الغاية التي يسعى إليها.
في الرؤية الإسلامية لا يُفهم آخر
الزمان بوصفه موتاً للكون أو انطفاءً عبثياً للتاريخ، بل هو انتقال
إلى طور يتحقق فيه وعد الله وغاية الخلق. فالقرآن يقرر أن التاريخ
محكوم بسنن إلهية ثابتة، وأن النهاية ليست قطيعة مع الماضي، وإنما
تتويج لمسار طويل من الصراع بين الحق والباطل ومن الابتلاءات التي
تنتهي بانتصار المتقين. آخر الزمان بهذا المعنى هو النقطة التي
تلتقي فيها خطوط النبوات جميعاً، ويتحقق فيها الوعد الإلهي بأن
الأرض يرثها عباده الصالحون. وهذا الوعد يرتبط بصورة مباشرة بالإمام
المهدي (عج)، الذي يمثل الامتداد الطبيعي لمسيرة الأنبياء، وظهوره
يعني لحظة انبلاج الحق وانتصاره بعد أن تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً،
فالمؤمن في حالة انتظار وترقب دائم لذلك اليوم الموعود الذي تكون
فيه حضارة السماء مهيمنة على الارض، وبذلك لا يكون الانتظار حالة
سلبية أو جمود، بل هو مشروع حضاري يحمّل المؤمنين مسؤولية التمهيد
والإصلاح، كما جاء في الحديث: «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج»، فآخر
الزمان في المنظور الإسلامي يفتح أمام الإنسانية أفقاً جديداً من
العدل والكرامة، ويكشف أن الدين ليس مجرد طقوس أو شعائر، وإنما رؤية
شاملة للتاريخ والمصير.
أما في الفكر العلماني فالصورة
مختلفة تماماً، لكونه يستبعد المرجعية الغيبية، ويُعوَّل على
الطبيعة والتاريخ البشري والعلوم الحديثة في رسم ملامح المستقبل.
ومن هنا تتعدد الرؤى بين اتجاهات متفائلة تبشر بـ«يوتوبيا علمية»،
وأخرى متشائمة تحذر من كوارث قادمة، وثالثة وجودية أو عدمية ترى أن
النهاية بلا معنى يتجاوز حدود الطبيعة.
فالاتجاه المتفائل يعلّق آماله على
التقدم التقني، متصوراً أن الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية
واستيطان الفضاء ستجعل من الإنسان كائناً ما فوق بشري، يطيل عمره
ويعيش في رفاهية أكبر، وربما يقيم حضارة خالية من المرض والجوع. غير
أن هذا الحلم يثير أسئلة أخلاقية عميقة: من يملك هذه التقنيات؟ وكيف
ستوزع ثمارها بين البشر؟
وعلى الضد من ذلك، يظهر التيار
الكارثي الذي يرى أن التغير المناخي، وتدمير البيئة، وانتشار
الأسلحة النووية، وتطور الأوبئة تهديدات واقعية قد تؤدي إلى انهيار
الحضارة أو حتى فناء الإنسان.
وهناك أيضاً اتجاه يركز على أزمة
المعنى، إذ يعتبر أن النهاية ليست سوى انطفاء بلا غاية، وأن على
الإنسان أن يصنع معنى لحياته بنفسه كما ذهب بعض الفلاسفة الوجوديين.
لكن هذا الحل يظل فردياً ومحدوداً، عاجزاً عن بناء سردية جماعية أو
حضارية جامعة.
وإلى جانب هذه التيارات، برزت
أطروحة «نهاية التاريخ» التي رأت في الليبرالية الديمقراطية ذروة
التطور السياسي والاجتماعي، وأن المستقبل ليس إلا امتداداً لها. غير
أن هذا الادعاء سرعان ما انهار أمام الأزمات العالمية المتلاحقة،
لتثبت الأحداث أن التاريخ لا يعرف توقفاً، بل يظل مفتوحاً على
احتمالات متعددة.
وفي التفاصيل العلمية نجد أن الرؤى
العلمانية تتوزع على سيناريوهات كونية مثل الموت الحراري للكون أو
التمزق العظيم أو الانهيار الكوني، وسيناريوهات بيئية مثل التغير
المناخي وفقدان التنوع البيولوجي والأوبئة، وأخرى تكنولوجية مثل
الحرب النووية أو انفلات الذكاء الاصطناعي أو الكوارث
البيولوجية.
والمعضلة الأعمق في هذه الرؤى لا
تكمن في السيناريوهات المتوقعة ذاتها بقدر ما تكمن في أزمة المعنى
التي تفرزها. فعندما يُختزل الكون في رؤية مادية صِرفة، يفقد
التاريخ وجهته الجامعة، ويغدو سؤال التضحية لأجل المستقبل بلا جواب
مُقنِع. لماذا نضحّي من أجل أجيال قادمة إذا كان كل شيء سينتهي إلى
العدم؟ هنا ينقسم الفكر العلماني بين اتجاه عدمي يقود إلى الفراغ
واليأس، واتجاه آخر يسعى إلى بناء منظومة قيم بديلة كحقوق الإنسان
والكرامة والحرية، لكنها تبقى هشة لأنها بلا سند متعالٍ يضمن ثباتها
ودوامها.
وإلى جانب أزمة المعنى تطفو على
السطح أزمة أخرى لا تقل خطورة، وهي أزمة الأخلاق. فمع التسارع في
التطورات التقنية التي قد تغيّر طبيعة الإنسان نفسها عبر الهندسة
الجينية أو دمجه بالآلة، يُطرح سؤال حاسم: هل ستبقى القيم الأخلاقية
صالحة في عالم يتشكل فيه "إنسان جديد" مختلف جذرياً عن الإنسان الذي
أنتج تلك القيم؟ وهل ستظل مفاهيم مثل الكرامة والعدالة والمسؤولية
قابلة للتطبيق في واقع يتجاوز الحدود البيولوجية والتاريخية التي
عرفناها لآلاف السنين؟
هذه التحديات تجعل الفكر العلماني
في موقف صعب؛ فهو من جهة لا يملك رواية جامعة للتاريخ ومعناه، ومن
جهة أخرى يبالغ أحياناً في التفاؤل بالتقنية أو في التشاؤم من
الكوارث، الأمر الذي يضعه بين وهم الخلاص الصناعي وشبح الفناء
المحتوم. ومن ثم يحاول أن يعوض هذا القصور بوضع استراتيجيات عملية
مثل اعتماد مبدأ الحيطة والمرونة لمواجهة المخاطر، وتعزيز الحوكمة
الدولية، وفرض أخلاقيات صارمة للبحث، وبناء سرديات بديلة للمعنى
تقوم على التضامن الإنساني والمواطنة العالمية، غير أن كل هذه
الحلول تبقى عاجزة عن معالجة الجذر الحقيقي للأزمة، لأنها تحاول سد
فراغ الغيب بمسكنات مؤقتة، فلا تمنح الإنسان الطمأنينة ولا تعطي
التاريخ غايته النهائية.
وعند المقارنة بين الرؤية
الإسلامية والعلمانية لآخر الزمان، تتضح الفوارق الكبرى. فالإسلام
يقدم نهاية غيبية حتمية، متصلة بالإرادة الإلهية وبالحكمة من الخلق،
حيث تكتمل السنن التاريخية ويُقام العدل الشامل وتُستعاد القيم
الكبرى، ثم يكون يوم الحساب الذي يعطي للأفعال الإنسانية معناها
النهائي. بينما العلمانية تقدم نهايات متعددة، بعضها يوتوبي حالم،
وبعضها كارثي مظلم، وبعضها عدمي لا معنى له، وبعضها يزعم أن التاريخ
انتهى بالفعل. وفي كل هذه التصورات تغيب الغاية المتعالية، فلا يبقى
سوى احتمالات مفتوحة بين إصلاح تدريجي أو انهيار شامل أو عبثية
مطلقة.
هكذا يتضح من النظر في قضية "آخر
الزمان" عبر مرآتي الإسلام والعلمانية أن المسألة لا تنحصر في
التنبؤ بالمستقبل، بل تمتد إلى جوهر معنى الوجود الإنساني نفسه،
وإلى المرجعية التي تحدد مساره: أهي مرجعية غيبية تستند إلى وعد
إلهي يفتح الأفق على العدل والكرامة، أم مرجعية مادية تترك
الإنسان أمام احتمالات العدم والفوضى؟ وهنا يبرز الفارق الجوهري؛
فالإسلام يمنح الإنسان بوصلة تهديه إلى الأمل ويضعه على طريق
العدالة، بينما تتركه العلمانية حائراً بين تصورات متضاربة لا
تقوده إلى معنى جامع. ومن ثم يصبح الحديث عن "آخر الزمان" حديثاً
عن أي إنسان نريد أن نكون، وعن أي قيم نختار أن نعيش ونموت
لأجلها: هل نختار أن نحيا في ظل وعد الله الحق، فنجد للوجود معنى
وللموت رسالة، أم نكتفي بانتظار مصائر عمياء لا تَعِد سوى بالعبث
والفناء؟