
2025-10-11 35

حينما تكون القراءة سبباً للجهل
الشيخ مصطفى الهجري
هالني كلام للأديب السوري أدونيس
حينما قال في لقاء تلفزيوني: «أن القارئ المسلم هو قارئ خاص، فإنه
لا يقرئك ليعرف ما في نفسك، وإنما يقرئك ليعرف هل أنت معه أو ضده،
هل أنت مع أفكاره أو ضدها، فهو يقرأ نفسه ومعتقداته نفسها، ولا يقرأ
بتجرد وموضوعية ما يكتبه الآخر».
مثل هذه القراءة تزيد الجاهل
جهلاً، ولا تزيد العالم علماً، فالجاهل عندما يقرأ ما يتفق وآراءه
الخاطئة فإنه يحاول تشييد أساسات باطله، فيزداد بذلك بعداً عن الحق.
حتى العالم ومع وقوفه على الحق، فإنه إذا حصر قراءاته بما يتفق مع
قوله دون الاطلاع على غيرها فإنه سيبقى بنفس حجم المعرفة دون زيادة.
بخلاف ما لو قرأهم ليتعرف على حججهم والتي ستثير تساؤلات جديدة
عنده، التي بمعرفتها تزيد معرفته وتُفتح له آفاقاً
جديدة.
فعن رسول الله (صلى الله عليه
وآله): «العلم خزائن ومفاتيحه السؤال فاسألوا رحمكم الله فإنه تؤجر
أربعة: السائل، والمتكلم، والمستمع، والمحب لهم» (تحف العقول: ص
41).
إن القراءة الانتقائية التي تبحث
فقط عن التأكيد والمصادقة على ما نعتقده مسبقاً تحولنا إلى أسرى
لأفكارنا، وتجعلنا نعيش في أقفاص ذهنية ضيقة. وقد حذر القرآن الكريم
من الجمود الفكري والتقليد الأعمى، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ
لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ (البقرة: 170). هذه الآية الكريمة
تدعونا إلى التحرر من أسر التقليد والانفتاح على الحق أينما
كان.
ومن هنا نجد أن الإمام علي (عليه
السلام) يقول: «لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه»، داعياً إيانا إلى
عدم الخوف من مخالفة السائد إذا كان الحق في خلافه. كما قال عليه
السلام: «من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم
غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه» (نهج
البلاغة).
التوازن بين الانفتاح
والحذر
لكن الدعوة إلى القراءة المنفتحة
لا تعني القراءة المنفلتة التي لا ضابط لها. فهناك فرق جوهري بين
الانفتاح الواعي والتخبط الأعمى في متاهات الأفكار المضللة. فقد حذر
أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من قراءة كتب الضلال قبل التمكن من
معرفة الحق ورسوخ العقيدة في النفس.
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. ﴾ لقمان: 6، وهذا يعني أن هناك
من يحاول تصدير أفكاره ليضل عن سبيل الله، وان النفس إذا لم تكن
محصنة بالعلم الراسخ والإيمان القوي، فإنها قد تكون فريسة سهلة
للشبهات والحجج المموهة. فالقارئ الذي لم يستوعب معتقده جيداً، ولم
يفهم أسس دينه وفلسفته بعمق، إذا انطلق يقرأ في الفلسفات المخالفة
والأفكار الهدامة، فقد يجد نفسه تائهاً بين المذاهب، حائراً بين
الآراء. يقول القرآن الكريم: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ﴾ (آل عمران: 7). فالقلب المائل غير المستقر على الحق
يتبع المتشابهات ويضل عن الصراط المستقيم.
لذا فإن المنهج السليم في القراءة
يتطلب التدرج والوعي، أن يبدأ الإنسان بتأسيس معرفته الأساسية، وأن
يبني قناعاته على أسس راسخة من العلم واليقين. عن الإمام علي (عليه
السلام): «وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى تَبْصِرَةِ
الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ،
وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ. فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ،
تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ، وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ
الْحِكْمَةُ، عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ،
فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِينَ.» (نهج البلاغة: من كلامه
عليه السلام في وصف الإيمان: رقم: 31.)
فاليقين يبدأ بالإدراك الواعي حيث
يقود إلى اكتشاف الحكمة وتثبيت المعرفة لينتهي الى تحصيل
اليقين.
ما نريد قوله ليس الانغلاق على
الذات، وإنما الحكمة في اختيار ما نقرأ ومتى نقرأه. فلا يرمي
الإنسان نفسه في أتون الفلسفات والأفكار الأخرى إلا بعد أن يستوعب
معتقده وفكره جيداً، وإلا بعد أن يمتلك الأدوات المعرفية والمنهجية
التي تمكنه من التمييز بين الغث والسمين، بين الحق والباطل.
قال الإمام الباقر (عليه السلام):
«إن هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة» (الكافي: ج1، ص40)، وهذا
يعني أن العلم يحتاج إلى مفاتيح صحيحة لفتح أبوابه، وليس كل قارئ
يمتلك تلك المفاتيح منذ البداية.
إن القراءة الواعية هي تلك التي
تجمع بين الانفتاح والحذر، بين الجرأة والحكمة، بين السعي لمعرفة
الآخر والحفاظ على الهوية. هي قراءة تبني ولا تهدم، تضيف ولا تنقص،
تنير الطريق ولا تزيد العتمة. وكما قال أمير المؤمنين (عليه
السلام): «اعرف الحق تعرف أهله»، فمعرفة الحق أولاً هي البوصلة التي
توجه القارئ في رحلته المعرفية، وتحميه من الضياع في متاهات
الضلال.
الأكثر قراءة
35538
19723