7 جمادي الثاني 1447 هـ   28 تشرين الثاني 2025 مـ 9:56 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-11-18   68

هل ما زال التشريع القرآني صالحًا لكل زمان ومكان؟


الشيخ معتصم السيد أحمد
منذ بدايات النهضة الحديثة، ومع تصاعد موجات الفكر المادي والاتجاهات الليبرالية، ظهرت أصوات تُشكّك في صلاحية التشريع القرآني للعصور المتأخرة. يدّعي أصحاب هذا الاتجاه أن القرآن الكريم وضع أحكامه لمجتمع بدويّ بسيط في القرن السابع الميلادي، وأن هذه التشريعات لم تعد ملائمة لمجتمعاتٍ متطورةٍ ومعقّدةٍ كعصرنا الحاضر. وتتركز شبهاتهم في جملة من المواضيع التي يرونها مخالفة لما يسمّونه “الإنسانية الحديثة” و”حقوق الإنسان”، كمسألة الميراث، وأحكام الحدود، وقضايا المرأة، والقوامة، والحجاب، والطلاق، وغيرها. بل يذهب بعضهم إلى حد القول إن القوانين الوضعية الحديثة أكثر عدلاً وإنصافاً من التشريع الإلهي الذي جاء به الإسلام.

ورغم أن هذه المزاعم تبدو في ظاهرها دعوة للتجديد، إلا أنها في حقيقتها تعكس فهماً سطحيًّا لطبيعة الشريعة القرآنية ومنهجها في تنظيم الحياة الإنسانية. فالإسلام لم يأتِ بمجموعة جامدة من الأحكام، بل بنظامٍ تشريعيٍّ متكاملٍ يجمع بين الثبات في المبادئ والمرونة في التطبيق، بين روح القيم ومقتضيات الواقع. ومن هنا يبدأ الرد العلمي والموضوعي على هذه الشبهة.

الشريعة الإسلامية — كما يقرر علماؤها عبر القرون — ليست تشريعاً ظرفياً مرتبطاً بزمانٍ دون آخر، بل هي منظومة قيمية تقوم على ثوابت ومقاصد كلية كتحقيق العدل، والرحمة، وصيانة الكرامة الإنسانية، وحفظ النفس والمال والعقل والدين. هذه المقاصد الكبرى هي جوهر التشريع وروحه الدائمة، أما الوسائل التطبيقية التي تحقق تلك المقاصد فقد جعل الله فيها مجالاً واسعاً للاجتهاد والتكيّف مع الزمان والمكان. ولذلك ميّز العلماء بين “الثابت” الذي لا يتبدّل لأنه يمثل المبدأ الإلهي، و”المتغيّر” الذي يتطور وفق ظروف الحياة ومصالح الناس، شرط أن لا يصطدم بالمقاصد العليا للشريعة.

فالطعن في صلاحية التشريع القرآني غالباً ما ينشأ من الخلط بين الثابت والمتغير، ومن التعامل مع النصوص الجزئية بمعزلٍ عن روحها الكلية. فالحدود مثلاً ليست مجرد عقوبات بدنية، بل منظومة ردعٍ أخلاقية واجتماعية هدفها حماية القيم والمجتمع من الانحراف، أما تطبيقها في الواقع فمرتبط بشروط دقيقة، كتحقق العدالة، وغياب الشبهات، وقيام الدولة العادلة. ولو التزم المشكّكون بهذا الفهم الشمولي لما وجدوا في الحدود “قسوةً” بل عدلاً رادعاً ووقاية للمجتمع.

ومن أبرز ما يستدل به المشكّكون على “عدم صلاحية التشريع القرآني” مسألة الميراث، التي يزعمون أنها تميّز ضد المرأة لأن نصيبها — بحسب ما يتوهمون — نصف نصيب الرجل. وهذه الشبهة شائعة جداً في الخطاب الحداثي المعاصر، لكنها تنهار تماماً عند أي قراءة فقهية جادّة.

فأول ما ينبغي إدراكه أن نظام الميراث في الإسلام لا يقوم على مبدأ المساواة الشكلية، بل على العدالة الواقعية. فالقرآن حين قال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ لم يكن يضع قانوناً عاماً للميراث في كل الحالات، بل تحدث عن حالةٍ محددة هي إرث الأولاد من آبائهم. أما نظام المواريث بكامله فيتألف من أكثر من ثلاثين حالة مختلفة، تتغيّر فيها الأنصبة تبعاً لدرجة القرابة، وموقع الوارث من الميت، ومدى تحمّله للمسؤوليات المالية.

فالمرأة في بعض الحالات ترث أكثر من الرجل، وفي أخرى مثله، وفي ثالثة أقل منه، وليس ذلك لكونها أنثى بل بحسب موقعها من الميت ومقدار العبء المالي الذي يتحمله الرجل شرعاً. فمثلاً:
إذا مات شخص وترك بنتاً واحدة وأباً، فإن البنت ترث أكثر من الأب، لأنها تأخذ نصف التركة فرضاً، ويردّ عليها الباقي، بينما للأب السدس فقط.

وإذا مات وترك أختاً شقيقة وأبناء عمّ، فالأخت تأخذ كل التركة، ولا يرث أبناء العم شيئاً.
وفي حالة أخرى، إذا مات وترك أماً وأباً دون أولاد، فللأم الثلث وللأب الثلثان، أي ليس دائماً للذكر ضعف الأنثى. بل إن هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل أصلاً، مثل الأم التي ترث مع أولاد ابنها إذا لم يكن لهم أب ولا أم، أو الزوجة التي قد ترث كل شيء بالفرض والرد إذا لم يكن هناك قريب عصبة.

إذن فالتوزيع في نظام الميراث القرآني قائم على العدالة لا على المساواة العددية. فالرجل، وفق التشريع الإسلامي، ملزم بالإنفاق على الأسرة زوجةً وأولاداً وأقارب، بينما المرأة غير ملزمة بالإنفاق على أحد، حتى على نفسها إن كان لها من يعولها. ومن ثمّ، إذا ورث الرجل ضعف المرأة فهو في الوقت نفسه مطالب شرعاً بمسؤوليات مالية مضاعفة، وعليه إن الفارق في بعض الحالات ليس تفضيلاً لجنسٍ على آخر، بل هو توزيع عادل للأعباء والحقوق وفق ميزانٍ تكامليٍّ لا تناقضيّ.

فمن يتّهم التشريع القرآني بالجمود أو التخلّف إنما ينطلق من تصورٍ ماديٍّ محضٍ يرى العدل في المساواة الحسابية فحسب، متناسياً أن العدالة الحقيقية هي التناسب بين الحق والواجب، بين الحاجة والمسؤولية. فالإسلام لم يجعل الرجل أفضل من المرأة ولا المرأة أدنى من الرجل، وإنما جعل كلاً منهما ركناً في نظام الأسرة والاجتماع، لكلٍّ دوره ووظيفته، ومن خلال هذا التكامل تتحقق العدالة الإلهية.

أما القول بأن القوانين الوضعية أكثر تطوراً وعدلاً فهو زعمٌ يفتقر إلى الدليل، لأن تلك القوانين نفسها تتبدّل باستمرار تبعاً لتغيّر المصالح السياسية والاقتصادية، بينما التشريع القرآني قائم على منظومة قيم لا تتناقض مع الفطرة الإنسانية، ولذلك بقي قادراً على الصمود في وجه كل التحولات الاجتماعية عبر القرون. فالقيم التي أسسها القرآن — كالرحمة، والعدل، والمساواة في الكرامة، والحرية في التكليف، والموازنة بين الحق والواجب — لا تتقادم لأنها تمسّ جوهر الإنسان لا شكله الخارجي.

إنّ الإشكال الحقيقي عند هؤلاء المشكّكين ليس في التشريع القرآني نفسه، بل في طريقة قراءتهم له. فهم يتعاملون مع النصوص الدينية بعقليةٍ انتقائيةٍ تُسقط مفاهيمها المعاصرة على نصٍّ إلهيٍّ يتجاوز الزمان والمكان. فالقرآن ليس كتاب قوانين جامدة، بل مشروع حضاري يرسم للإنسان طريق الحياة المتوازنة بين المادة والروح، بين الحرية والمسؤولية.

ومن هنا، فإن صلاحية التشريع القرآني ليست مجرد فكرة عقائدية، بل حقيقة واقعية يثبتها التاريخ. فكلما اقتربت المجتمعات من روح القرآن ازدهرت إنسانيتها، وكلما ابتعدت عنه استحكم فيها الظلم والفساد، ولو رفعت شعارات “الحرية والمساواة”. وما زال العالم إلى اليوم يبحث عن قوانين تحقق العدالة الحقيقية التي لا تتبدل بتبدل الأنظمة، بينما القرآن وضع أصولها منذ أربعة عشر قرناً.

إنّ الذي يؤمن بأن الله تعالى هو خالق الإنسان الأعلم بطبيعته واحتياجاته، يدرك أن التشريع الإلهي لا يمكن أن يكون قاصراً عن مواكبة الزمن. فالقانون الإلهي هو الوحيد الذي ينطلق من علمٍ محيطٍ بحقيقة الإنسان وغايات وجوده، بينما القوانين البشرية محدودة بجهل واضعيها وقصورهم. ولهذا سيبقى التشريع القرآني صالحاً لكل زمان ومكان، لأنه ليس من صنع الإنسان بل من لدن خالق الإنسان.

وفي النهاية، فإن هذه الشبهات وإن تنوعت صورها، فإنها جميعاً تقوم على أساس واحد: فصل الدين عن الواقع، واعتبار الوحي مجرد مرحلة تاريخية. لكنّ المؤمن الذي يفقه سنن الله في التشريع، ويدرك مقاصد الوحي، يعلم أن القرآن ليس كتاب ماضٍ، بل دستور حياةٍ متجددٍ يُضيء درب الإنسان في كل عصر. فكما كان قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ شعار العدل في الصدر الأول، فإنه سيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م