7 جمادي الثاني 1447 هـ   28 تشرين الثاني 2025 مـ 9:56 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-11-27   16

أزمة الرؤية الدينية… حين ينفصل النص عن الحياة


الشيخ معتصم السيد أحمد
يعيش المسلم اليوم حالة مركّبة من التناقض الداخلي؛ فهو يشعر بأن الدين ضرورة لا يمكن التخلّي عنها، وبأن التدين حاجة أساسية لطمأنينة القلب واستقامة السلوك، لكنه في الوقت نفسه يجد نفسه تائهاً في عالم لا يفهمه، وممزقاً بين هوية ينتمي إليها وواقع لا تشبهه ملامحه. إن هذه المفارقة لم تنشأ من ضعف الدين، ولا من عجز النصوص، ولا من تغوّل الحداثة وحدها، بل من خلل عميق في المنهج الذي نقرأ به الدين، وفي الصورة التي حملها العقل المسلم عن الله، وفي الطريقة التي تحوّلت بها الشريعة من طريق إلى الله إلى منظومة وظائف شكلية. 
ومن هذه النقطة تبدأ الحكاية الحقيقية لأزمة الرؤية التي يعيشها المسلم المعاصر.

لقد كان النص القرآني – في أصله – يحمل رؤية كاملة للإنسان والوجود؛ رؤية تجعل الله مركز الحياة، والتوحيد أساس الوعي، والشريعة منهجاً لتزكية النفس، والعقيدة نوراً ينعكس في السلوك الفردي والاجتماعي والحضاري. ولكن هذا النص، الذي نزل ليهدي، أصبح عبر القرون يُقرأ بأعين غير عينيه، ويُفهم بمناهج لم يولد منها، ويُحاكم انطلاقاً من قضايا لم ينشأ بسببها. فأنتج ذلك انفصالاً تدريجياً بين النص وبين الحياة، وبين الدين وبين الوجود، حتى صار المسلم يبحث عن معنى حياته في الفلسفات الأجنبية، وعن غايته في الحضارات الأخرى، وعن رؤيته للإنسان في النظريات الغربية، بينما يبقى الدين – في وعيه – مجموعة تكاليف وأحكام وطقوس لا أكثر.

إنّ أول انحراف في هذا المسار بدأ حين تحوّلت معرفة الله من حقيقة حاضرة في الوجدان والواقع إلى مفهوم ذهني تجريدي. لقد قدّم علم الكلام – رغم أهميته في الدفاع عن العقيدة – معرفة لله قائمة على الجدل العقلي، والبرهنة المنطقية، والمماحكات الجدلية، لا على الهداية القرآنية التي تزرع في النفس حضوراً وحميمية وتوجهاً نحو الكمال. وهكذا أصبح المسلم يعرف "وجود الله" كفكرة، لكنه لا يعيش "حضور الله" كتجربة. يعرف أن الله خالق الكون، لكنه لا يشعر أنه قريب منه في آلامه وخياراته ومصيره. يعرف آيات الصفات نظرياً، لكنه لا يدرك أثرها في حياته. يعرف أن التوحيد أصل الدين، لكنه لا يعرف كيف يمكن لهذا التوحيد أن يصبح رؤية تفسّر له العالم، وتمنحه قوة على مواجهة الضعف والتشتت.

ومن هنا سقطت روح الشريعة. لأن الشريعة – في حقيقتها – ليست قوانين جامدة، بل هي طريق إلى الله، ورسالة تزكية، وطريق لبناء الإنسان أخلاقياً وروحياً ووجودياً. ولكن حين غاب الله الحاضر، غابت معه روح الأحكام، وبقيت "وظائف شرعية" تؤدّى أحياناً بلا حياة، و"عبادات" تمارس بلا أثر، و"مفاهيم" تحفظ بلا عمق. فالإنسان قد يصلّي دون أن يشعر أن صلاته تعبر به من ضيق روحه إلى سعة النور الإلهي، وقد يصوم دون أن يتغير شيء في داخله، وقد يحج دون أن يجد أنّ الرحلة إلى مكة هي رحلة إلى ذاته. وعندما تنفصل الأحكام عن غاياتها، تتحول العبادة إلى تكرار، ويتحول الفقه إلى تقنية، ويصبح الدين "ممارسة" لا "بصيرة".

ثم سقط الخطاب الديني. الخطاب الذي وُجد ليكون همزة وصل بين النص والإنسان، صار – مع الزمن – عاجزاً عن مخاطبة العقل المعاصر، لأنه هو نفسه فقد روحه وفقد البوصلة التي تجعل النص حياً في الوجود. أصبح الخطاب الديني في كثير من المجالات يكرر ما قاله السابقون دون وعي بمنهجهم، وينقل التراث دون نقد، ويستعمل النصوص دون فهم لبنيتها، ويعالج مشكلات جديدة بأدوات قديمة، ويخاطب جيلاً يعيش في عالم غير العالم الذي وُجدت فيه تلك الخطابات الأولى. فالإنسان الذي تهاجمه الأسئلة الوجودية، وتضغط عليه الحياة السريعة، وتغمره التقنية، وتطارده الشكوك، ويشعر بقلق الهوية، يحتاج إلى خطاب ديني قادر على بناء رؤية، لا مجرد خطاب يكتفي بالوعظ والتذكير.

وهكذا وجد المسلم نفسه في حالة غريبة: هو يقرأ القرآن، لكنه لا يعرف كيف يقرأ العالم به. يسمع الخطب، لكنها لا تُنبت في داخله بصيرة. يتدين، لكنه لا يرتقي. يعيش الإسلام، لكن الإسلام لا يعيش فيه. يتساءل عن معنى حياته، فلا يجد في الخطاب الديني إجابة مقنعة تُنير العقل والقلب معاً. وعندما يبحث عن معنى الوجود، يذهب إلى الفلسفات الغربية، وعندما يبحث عن الغاية، يستسلم لنماذج حضارية أخرى، وعندما يبحث عن النجاح، يقلّد تجارب ليست نابعة من رؤيته للدين. بينما يبقى الدين – في وعيه – شيئاً منفصلاً عن الحياة اليومية، لا يشكّل منظاراً لفهم العالم، ولا يقدّم إطاراً للإنسان، ولا يجيب عن الأسئلة الكبرى، ولا يمنحه يقيناً ولا حرية ولا عمقاً.

هنا تكمن الأزمة الحقيقية: إنّ الدين الذي لا يتحول إلى رؤية للحياة، يفقد دوره الطبيعي. فالدين ليس تعاليم معزولة، ولا أحكاماً منفصلة، ولا عقيدة نظرية. الدين – كما جاء في القرآن – هو منظور شامل للوجود، يفسر الكون والإنسان والتاريخ والمصير، ويمنح للإنسان معنى، ويوجه سلوكه، ويهذب روحه، ويضيء عقله، ويشكل علاقته بالعالم. وعندما يُفقد هذا المعنى، يصبح الدين مجرد "هوية" تُمارس من الخارج، لا "هداية" تُعاش من الداخل.

إنّ الإنسان المسلم اليوم لا يحتاج إلى إصلاح الفقه وحده، ولا إلى تجديد الخطاب وحده، ولا إلى ردّ الشبهات وحدها. بل يحتاج إلى استعادة الرؤية؛ رؤية توحيدية قرآنية تُعيد وصل الإنسان بالله، وتُعيد وصل النص بالواقع، وتُعيد وصل الشريعة بالغاية، وتُعيد وصل الدين بالحياة. هذه الرؤية هي التي تجعل التوحيد قوة محركة، والشريعة منهجاً للارتقاء، والخطاب الديني باباً للمعرفة، والأخلاق نتيجة طبيعية للإيمان، والتدين تجربة روحية متفاعلة مع الواقع وليس مظهراً اجتماعياً فحسب، والحضارة ثمرة من ثمار الوعي.

إنّ الحل لا يبدأ من إصلاح الخطاب ولا من تطوير المناهج وحدها، بل من إعادة بناء المنهج الذي نقرأ به الدين نفسه. فالقرآن ليس نصاً يغلق أبوابه، بل هو نص يبني منهجه من داخله، ويقدّم مفاتيح فهمه في آياته، ويهدي الإنسان إلى رؤية تتجاوز حدود الزمن. وإذا استعدنا هذا المنهج، فإن النص سيستعيد قوته، والدين سيستعيد دوره، والإنسان سيستعيد نفسه، والمجتمع سيستعيد روحه، والحضارة ستستعيد اتجاهها. وهذا هو المطلوب اليوم: ليس مجرد تدين، بل فهم جديد للدين؛ ليس مجرد تكرار، بل قراءة تولّد رؤية؛ ليس مجرد خطاب، بل منهج يفتح أبواب الهداية.

إن استعادة الرؤية الدينية ليست مغامرة فكرية ولا مشروع نخبوي، بل هي حاجة وجودية لكل إنسان يبحث عن معنى يرشده وسط عالم مضطرب. وهذه العملية تحتاج إلى مسارات عملية واضحة، يمكن للمؤسسة الدينية، ولطالب العلم، وللمثقف، وللمسلم العادي أن يسير فيها ليعيد للدين قدرته على الإلهام والبناء.

وأول هذه المسارات هو العودة المباشرة إلى النصّ القرآني بوصفه مصدراً للرؤية، لا باعتباره كتاب أحكام فحسب. فالقرآن لا يقدم حلولاً فقهية فقط، بل يبني الإنسان من الداخل، ويصوغ نظرته للعالم، ويعيد ترتيب علاقته بالكون والإنسان والتاريخ. ولا يمكن لأي مشروع نهضوي أن ينجح دون أن يعود إلى البنية التصورية التي يقدمها القرآن؛ تلك البنية التي تمنح الإنسان وعيه بذاته، وتكشف جدوى الحياة، وتجعله يرى وجوده امتداداً لإرادة الله في الكون.

والمسار الثاني هو تحرير الله من القيود الجدلية التي فرضها علم الكلام، وإعادته إلى صورته القرآنية الحيّة. فحين يشعر المسلم بأن الله ليس فكرة تُبحث في الكتب، بل حضوراً يرافقه في كل خفقة قلب، ومرجعاً لكل اختيار، ومصدراً لكل قيمة، يتحول التوحيد إلى قوة داخلية تُعيد تشكيل الأخلاق والسلوك والوعي. إن التربية على "الله الحاضر" هي المفتاح الأول لإصلاح الداخل، لأن الإنسان لا يستقيم إلا إذا عاش علاقته بالله بصفته علاقة وجودية لا علاقة نظرية.

أما المسار الثالث فهو إحياء روح الشريعة، لا الاكتفاء بتعلم أحكامها. فالشريعة في القرآن ليست قوانين لردع الإنسان، بل طريق لتزكيته. وحين تُدرَّس الأحكام بمعزل عن غاياتها، يتعلم الناس "ماذا يفعلون"، ولا يتعلمون "لماذا يفعلون". والتعليم الشرعي يحتاج اليوم إلى إعادة مركزية المقاصد القرآنية، وربط كل حكم بآثاره الروحية والإنسانية، حتى لا يبقى الدين ممارسة شكلية بل يصبح سلوكاً ينبع من عمق النفس ويصلح الكون من حولها.
والمسار الرابع هو تحويل الخطاب الديني إلى خطاب معرفي تحليلي قادر على قراءة الواقع. لم يعد يكفي أن نُذكّر الناس بما هو معروف، ولا أن نكرر ما قاله السابقون؛ بل لا بد من خطاب جديد يفهم تحولات الحياة، ويقرأ العلم الحديث، ويواجه تحديات التقنية، ويعالج الأسئلة الوجودية للجيل الجديد، ويقدّم رؤية منسجمة مع القرآن ومع العقل ومع التجربة الإنسانية. فإذا فشل الخطاب الديني في مخاطبة العقل المعاصر، فوّض الإنسان عقله لنماذج أخرى.

والمسار الخامس هو إعادة الاعتبار للأخلاق بوصفها جوهر التدين لا ثمرته المتأخرة. فالتدين الذي لا ينعكس في الرحمة والعدل والصدق والتواضع، هو تدين ناقص مهما كانت الشعائر حاضرة. والأخلاق ليست ملحقات في الدين، بل هي التعبير العملي عن حضور الله في القلب. وكل مشروع إصلاح ديني لا يبدأ من الأخلاق، هو مشروع ستتعثر قدماه مهما ارتفعت شعاراته.

والمسار السادس – وهو من أهم المسارات – هو بناء وعي حضاري يرى الدين قوة لبناء المستقبل لا مجرد ذاكرة للماضي. فالمسلم لن يستعيد ثقته بدينه ما لم يكتشف أن الإسلام قادر على تقديم رؤية للعلم، وللاقتصاد، ولعلاقة الإنسان بالبيئة، وللحرية، وللعدالة، وللبناء الاجتماعي. إن الدين بوصفه رؤية حضارية قادر على أن يمنح الإنسان معنى، وأن يمنح المجتمع توازناً، وأن يمنح العصر بوصلة.

والمسار السابع هو تنقية الوعي من المركزيات الثقافية غير الإسلامية التي سيطرت عليه. فحين يستمد المسلم أهدافه من فلسفة غربية، وأحلامه من النموذج المادي، ونجاحه من قيم السوق، لن يجد للدين أي دور في حياته. ولا يمكن للدين أن يعود قوة موجهة إلا إذا أصبح مصدر الغاية، لا مجرد مصدر للطقوس.

والمسار الأخير هو إعادة الإنسان إلى نفسه عبر إعادة الدين إلى مركز حياته. فكل الإصلاح يبدأ من الداخل: حين يشعر الإنسان بأن حياته جزء من معنى أكبر، وأن وجوده ليس صدفة، وأن كل عمل يقوم به يمكن أن يكون طريقاً إلى الله، تنقلب رؤيته للكون، وتستقيم خطواته، ويصير الدين ليس شيئاً يفعله، بل شيئاً يعيش به.

وهكذا تُستعاد الرؤية المفقودة:
لا عبر معارك فكرية،
ولا عبر خطاب وعظي،
ولا عبر تراكم المعلومات،
بل عبر إعادة الدين إلى مكانه الطبيعي…
قوة تصنع الإنسان، وتبني الوعي، وتشكل المعنى، وتوجّه الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م