
2025-11-27 22

خطورة الموالاة الحضارية: حين تتحول قيم الكفار إلى نمط حياة إسلامي
الشيخ مصطفى الهجري
عندما يشدد القرآن الكريم على أمر
ما تشديدًا استثنائيًا، فإن ذلك يدل على خطورة بالغة وعاقبة وخيمة.
ومن أشد ما حذر منه القرآن: موالاة الكفار وأهل الكتاب، حتى قال
الله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)،
ونفى عنهم الانتماء إليه بقوله: (وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ
مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)، وحذرهم أشد التحذير: (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ). هذا التشديد الإلهي لم يأتِ عبثًا، بل كان
تحذيرًا مما سيقع فيه المجتمع الإسلامي من انحراف خطير.
وحين نتحدث عن موالاة الكفار،
فإننا لا نعني فقط التحالف السياسي أو العسكري، بل نعني شيئًا أعمق
وأخطر: اتباعهم في أساليب حياتهم، واستيراد قوانينهم، وتبني نظمهم
الإدارية والاجتماعية دون تمحيص أو عرض على ميزان الشريعة. هذه
الموالاة الثقافية والحضارية هي التي حذر منها القرآن بقوله: (وَلَا
تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)،
ومسيس هذه النار ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضًا.
إن المتأمل في واقع المجتمعات
الإسلامية اليوم يجد أن ما حذر منه القرآن قد وقع بالفعل. لقد
استوردنا النظم الاقتصادية الربوية، فانتشر الربا والغش والاحتكار
حتى أصبحت من أساسيات المعاملات. وتبنينا النماذج الاجتماعية
الغربية، فتفككت الأسر، وضاعت القيم، وأصبحت العلاقات الأسرية هشة
قابلة للانهيار عند أول اختبار. واستنسخنا المناهج التعليمية دون
تكييفها مع قيمنا، فنشأت أجيال غريبة عن دينها، لا تعرف من الإسلام
إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه.
يصف السيد الطباطبائي هذا الواقع
بدقة متناهية: «وإذا انهدمت بنية هذه السيرة اختلت مظاهرها الحافظة
لمعناها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسقطت شعائره العامة،
وحلت محلها سيرة الكفار». هذا بالضبط ما نشهده اليوم: الأمر
بالمعروف أصبح ضعيفًا مستهجنًا، والنهي عن المنكر تُهمة يُعاقب
عليها صاحبها، والشعائر الإسلامية تقلصت إلى طقوس فارغة من المضمون،
بينما تسود قيم وأعراف مستوردة لا تمت لديننا بصلة.
القرآن الكريم سماها "ردة" وإن لم
تكن ردة اصطلاحية، فهي ردة تنزيلية، أي انحراف عن جوهر الدين وإن
بقي الانتماء الظاهري له. يقول الله تعالى: (وَلَوْ كَانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ
فَاسِقُونَ). المجتمع الذي يوالي الكفار في نظم حياته ويتبع
قوانينهم في إدارة شؤونه قد انقطعت صلته الحقيقية بالله وإن ادعى
الإيمان.
النتيجة المنطقية لهذه الموالاة
واضحة: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). المجتمع الذي يتبنى
نظم الكفار يفقد هداية الله، ويفقد البوصلة التي توجهه نحو سعادته
الحقيقية في الدنيا والآخرة. السعادة الدنيوية للمسلمين تكمن في
العيش وفق سنة الدين والسيرة الإسلامية، فإذا استبدلت بسيرة الكفار،
انهارت السعادة وحل محلها الشقاء والضياع.
ولا يعني هذا الدعوة إلى الانعزال
أو الانغلاق على الذات، فالإسلام دين منفتح على العلم والحكمة أينما
كانت، لكن المعيار الوحيد هو موافقة الشريعة. خذ التقنية والعلم
النافع، لكن لا تستورد القيم الفاسدة. استفد من التجارب الإدارية
الناجحة، لكن لا تتبنى النظم المخالفة لشرع الله. تعامل مع الآخر
بحكمة، لكن احفظ هويتك وخصوصيتك الإسلامية.
إن التحذير القرآني من موالاة
الكفار لم يكن مجرد نهي ديني، بل كان تنبؤًا بواقع سيعيشه المسلمون
إذا سلكوا هذا الطريق. واليوم، نحن نعيش تحقق هذا التنبؤ. الحل يكمن
في العودة الواعية إلى الإسلام الأصيل، بروح منفتحة لا منغلقة،
متمسكة بالجوهر لا متشبثة بالقشور، تأخذ من الحضارات ما يوافق
شريعتها، وترفض ما يخالفها. هذا هو الطريق الوحيد للخروج من الأزمة
الحضارية التي تعيشها الأمة.
الأكثر قراءة
37016
19905


