
2025-12-07 75

لماذا يضعف تدين بعض شبابنا؟ جذور الأزمة وطرق العلاج
الشيخ مصطفى الهجري
مع الانفتاح على مختلف الثقافات
يقف شبابنا اليوم أمام مفترق طرق حاسم يتعلق بهويتهم الدينية.
فالدين بتعبير العلامة الطباطبائي هو رؤية كونية (أي مجموعة عقائد)
يبتني عليها سلوك الإنسان (أي فقه مبني على عقيدة ما) فالدين ليس
مجرد طقوس تُمارس أو شعائر تُؤدى، بل هو البوصلة التي تحدد مسار
الإنسان في حياته كلها. يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾،
وهذه الآية الكريمة تختصر جوهر الهوية الدينية: أن يكون كل جانب من
حياة الإنسان متصلاً بخالقه، موجهاً نحو مرضاته.
وقد جعل الله تعالى الدين أساس
هوية المسلم وأصلها، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ﴾، وقال: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا
فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
فالإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة،
والبراءة من الشرك وأهله. وهذا الدين هو الذي يحفظ للأمة كيانها
ووجودها، ويمنحها تميزها بين الأمم (الهوية).
والذي يحفظ هذه الهوية للإنسان هو
التمسك بالقرآن الكريم وهدي أهل البيت عليهم السلام بناء على حديث
الثقلين المتفق على صحته.
إن أكبر خطأ يرتكبه الشاب اليوم هو
أن يفتح هاتفه ويبحر في عالم الإنترنت بلا وعي، وبلا قدرة على
التمييز بين الحق والباطل. ففي زمن الانفتاح الرقمي، تتدفق
المعلومات والشبهات بلا حدود، وتتصارع الأفكار والتوجهات، والشاب
الذي لا يملك معرفة دينية صحيحة وأدوات تفكير نقدية يصبح فريسة سهلة
للضياع.
يضاف إلى ذلك غياب القدوات
الحقيقية. ففي زمن الأبطال الوهميين من مشاهير الترفيه، يتراجع
تأثير العلماء والمفكرين والرجال الصالحين. وقد قال الإمام علي عليه
السلام: "العلم وراثة كريمة، والآداب حلل مجدِّدة، والفكر مرآة
صافية" نهج البلاغة: 3/4، مشيراً إلى أن العلم والمعرفة هما الميراث
الحقيقي الذي يجب أن ينتقل من جيل إلى جيل، وليس التقليد الأعمى
للثقافات الهابطة.
كما تشكل موجات الإلحاد واللادينية
تحدياً خطيراً، وهي لا تأتي عادة من بحث علمي عميق، بل من صدمات
نفسية، وتجارب اجتماعية سلبية، ومحتوى إعلامي مؤثر، وأحياناً من ضعف
المعرفة الدينية لدى الشباب أنفسهم.
مظاهر فقدان الهوية: بين التطرف
والانفلات
عندما تضعف الهوية الدينية لدى
الشباب، تظهر أحد ظاهرتين خطيرتين:
أولاً: التطرف: وهو رد فعل ناتج عن
خوف أو جهل. يتميز بنظرة ضيقة للدين، وعدم قبول للآخرين، وأحكام
متسرعة على الناس. هذا النوع من التدين يفتقد إلى الرحمة والحكمة،
ويبتعد عن جوهر الدين الذي جاء رحمة للعالمين.
ثانياً: الانفلات: وهو حالة فقدان
للضوابط والقيم. يتمثل في الاستهتار بالدين، وتبني قيم غريبة بلا
وعي، وتفكك داخلي وشعور عميق بعدم الانتماء. هؤلاء الشباب يعيشون
فراغاً روحياً رغم أنهم قد يحملون أسماء إسلامية.
وكلا الطرفين - التطرف والانفلات -
نتيجة مباشرة لغياب الوعي الديني الصحيح، الذي يجمع بين الفهم
العميق والممارسة المتزنة.
الوعي الديني الحقيقي: الحل
الأمثل
الوعي الديني الحقيقي هو الفهم
وليس مجرد الممارسة الشكلية. إنه يتميز بـ:
العقلانية: تؤمن بالدليل لا
بالتقليد الأعمى. فالله تعالى يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، داعياً المؤمنين إلى
التفكر والتدبر في آياته.
الاعتدال: يرفض الغلو والانفلات
معاً. فالدين الإسلامي دين الوسطية، وقد وصف الله تعالى هذه الأمة
بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
الأخلاق العملية: تتجسد في السلوك
اليومي وليس في الكلام فقط. فالإمام الصادق عليه السلام يقول: "رحم
الله عبداً حبَّبنا إلى الناس ولم يُبغِّضنا إليهم" الكافي: ج8،
ص229، مؤكداً أن حسن الخلق هو أفضل وسيلة لتمثيل الدين.
الحوار والتعايش: مع المختلف
بالحكمة والموعظة الحسنة، دون تنازل عن الثوابت.
القدرة على المواجهة: للشبهات
بالعلم والحجة، بدلاً من الهروب منها أو تجاهلها.
لحفظ هوية شبابنا وتقوية تماسكهم
الديني، يجب أن نعمل على عدة محاور:
تحسين الخطاب الديني: بحيث يخاطب
عقل الشاب بلغته، ويجيب عن أسئلته، ويحترم ذكاءه.
توفير قدوات حقيقية: في الأخلاق
والعلم والالتزام، فالقدوة هي أسرع وسيلة لغرس القيم.
بناء بيئة داعمة: من خلال نشاطات
وندوات ومجموعات نقاش تُشعر الشاب بالانتماء.
تنمية التفكير النقدي: فالهوية
القوية لا تُبنى على الخوف من السؤال، بل على القدرة على البحث عن
الحقيقة.
ربط الدين بالحياة: ليكون دافعاً
للتفوق، ومحفزاً للعمل، ومؤطراً للأخلاق، وليس مجرد طقوس منفصلة عن
الواقع.
إن حفظ هوية الشباب الدينية ليس
عملاً تعليمياً فقط، بل هو مشروع إنساني وأخلاقي وحضاري. يبدأ من
الفرد، ويتعزز في الأسرة، ويكتمل في الجامعة والمجتمع. إذا امتلك
شبابنا هوية دينية متوازنة ومتزنة وواعية، فسنرى جيلاً يبني ولا
يهدم، ينهض ولا يتراجع، جيلاً يحمل قيم السماء إلى أرضه ووطنه.
والله تعالى يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا﴾، وهذا هو الطريق لحفظ الدين والهوية معاً.
الأكثر قراءة
37515
19957


